المتابعون

الخميس، 9 مايو 2013

هذا هو «رئيسكم» الذي لا تعرفون (1/2)!

كلما تأملت مصيبة السودان، الذي تحكمه عُصبة حرَّمت حلاله وأحَلّت حرامه. أستعجب من هذه المحنة التي تطاولت لما يناهز ربع قرن من الزمن، بل ومن شدة ما رزئنا بحرائها وضرائها يظن المرء أننا كل عام نُرذل فيها أضعافاً مضاعفة. وعلى الرغم من أن عُصبة الجبهة الإسلاموية لها من صفات الانحطاط الأخلاقي، ما يتقاصر دونه سوء الظن وتتقازم معه أفعال قوم عاد وثمُود وأصحاب الرَّس، إلا أن دهشتي أو بالأحرى محنتي تزداد غوراً، وجُرحي يزداد نُسوراً كلما أدركت أن من يقف على رأس هذه العصبة رئيساً غِطْريساً ليس فيه من خصال الرئاسة ما يؤهله لحكم هذا البلد المغلوب على أمره. ومع ذلك لن يجرمننا شنآن تطابق خصاله وطبيعة النظام القائم في الحكم عليه بالقسطاس. فكلنا يعلم أن مثل هؤلاء الذين يجدون أنفسهم بغتةً في سدة الرئاسة تزداد فرصهم في ظل الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، في حين تتضاءل بل تكاد تنعدم في ظل الأنظمة الديمقراطية. وذلك نظراً للبيئة الحاضنة التي تولد فيها الأخيرة. فالانتخابات الحرة النزيهة هي التي يتولى فيها الأكفاء المهام الجسام، وهي التي تكفل للشعب التمتع بالحريات الممدودة، وهي التي تستظل بسلطة تشريعية قوية، وتتعرش بقضاء عادل، الناس فيه سواسية كأسنان المِشط. بيد أن السؤال القديم المتجدد الذي يطرح نفسه في الحالة المُربكة التي نحن إزاءها.. هل كان الرئيس «الضرورة» المشير عمر حسن أحمد البشير حاكماً للسودان بأكمله أو حتى ما تبقى منه طيلة الفترة المذكورة؟!
واقع الأمر هذا سؤال تقريري، ومع ذلك أود أن أستعير إجابته بوصفٍ سديدٍ أتحفنا به كاتب آبق من عصبته الحاكمة. فقد قال الدكتور عبد الوهاب الأفندي في سياق مقال تحليلي نُشر مطلع هذا الشهر في المواقع الإسفيرية السودانية المبثوثة في أرجاء الدنيا: (في حقيقة الأمر فإن الرئيس البشير لم يقض 23 سنة حاكماً للسودان، لأن الحكم خلال العشرية الأولى كان في أيد أخرى، ولم ينفرد البشير بالسلطة إلا خلال الأربع أو الخمس سنوات الماضية. فقد كان البشير أمضى سنوات طويلة يمثل دور الرئيس بإتقان شديد، بينما لم يؤد مهمة الرئيس حقيقة بإتقان في أي وقت) بالطبع فإن كل من قرأ هذا سيقول، صدق الأفندي وكذبت العصبة فيما يفترون. ولكن بالقدر نفسه سيقولون، وما الجديد في أمرٍ يعرفه حتى الذين لم يبلغوا الحُلم في البلد الصابر أهله. ذلك بالطبع أيضاً صحيح، ولكن أقول إن تفصيل وتوصيف الأفندي هذا جلبناه لأمر في نفس يعقوب ووجد هوىً في نفسي كاتبه، بحيث بدا لنا إنه أعمق وقعاً وأصدق واقعية!
بيد أنني أود أن أؤكد قبل الخوض في تفاصيل هذا المقال، أنه غير معني بالجدل الذي ثار فجأة حول «ترشيح» المشير البشير نفسه من عدمها في العام 2015م وذلك لعدة أسباب، منها أن كلمة «ترشيح» إلى جانب أنها ليست من مصطلحات النظم الشمولية والديكتاتورية، فهي تؤكد ما دأبت عليه العصبة في الاستخفاف بالعقل الجمعي لأهل السودان. فهم يتحدثون عن دورتين رئاسيتين وكأن ما قبلهما من سنين سقطت في جُب النسيان. ويتحدثون عن دستور والقائم رغم علاته لا يتذكرونه إلا في الملمات. والواقع أن النظام وفق مرجعيته الانقلابية ظلت مسألة الشرعية الدستورية تؤرقهم، وقد حاولوا مراراً التحايل عليها بمنهج (الفهلوة السياسية) فطرحوا في بواكيرهم ما أسموه بـ (نظام المؤتمرات الشعبية) ثم ابتدعوا (الإجماع السكوتي) وعندما كسد سوقهما أخرجوا من جرابهم ما عُرف بــ (التوالي السياسي) وحينما ذهب ريح هذه الطلاسم، عمدوا مباشرة إلى التزوير الفاضح فيما سمي ب (انتخابات الخج). فضلاً عن أن الجدل المفتعل نفسه هو عبارة عن مسرحية قصد بها صرف الأنظار عن القضايا الأساسية بشراء الوقت. وبناءً على كل هذا، فإن كاتب هذا المقال يؤمن إيمان العجائز بعدم شرعية هذا النظام حتى لو لبثوا فينا ما لبث نوح في قومه!
نعود للبشير أو الرجل الكثير الذنوب وقد ناقض اسمه سيرته ابتداءً. ونود في هذا المقام أن نسلط الضوء على صفات تتناقض فيمن طمح لقيادة أمة، وهماً كان أم حقاً. كنت قد ذكرت في مقال سابق صفة ذميمة تعد من أمهات الكبائر وقد التصقت بالمذكور التصاق الوشم بالجلد. جاء ذلك في سؤال وجهته لضابط سابق في القوات المسلحة، وكان ممن أثق في مصداقيتهم وقد علمت أنهما ترافقا لعدة سنوات في ثكنة عسكرية واحدة. سألته في بواكير الانقلاب الكارثي عن رأيه في المذكور؟ طفق محدثي يذكر صفات عدّها حميدة حتى يكون منصفاً كما قال. غير أنه ختم شهادته بما لم يحلل عقدة من لساني، وقال إنه عَرف عنه صفة سيئة واحدة وهي (الكضب) وللذين لا يحسنون دارجية أهل السودان نقول إنها تعني الكذب. واقع الأمر لم يطل انتظارنا حتى نتحقق من هول ما ذكر، فقد علمنا بعد حين أنه ذات اللقب الذي اشتهر به المذكور في أوساط ضباط القوات المسلحة السودانية أو (عرين الأبطال) كما تُسمى. ولسبب لا أدريه أذكر أنه عندما أوردت هذا الإقرار في المقال السابق، استنفر رهط من عصبته أنفسهم وأمطروني بوابل من التكذيب. المفارقة أن المعلومات في زمن الأسافير لا تحتاج لمجتهد. إذ انداحت الأقوال والأفعال من لدن (عمر الكضاب) بدرجة أذهلت كل مرضعة عما أرضعت!
في يونيو من العام 2002م أجرى الصحافي (الجمبازي) أحمد البلال الطيب لقاءً تلفزيونياً (برنامج في الواجهة) مع المشير بمناسبة مرور 13 سنة على الانقلاب العسكري. حكى فيه تفاصيل الدقائق الأخيرة التي سبقت ساعة الصفر. قال إنه أراد التحرك من منزله في (حي كوبر) نحو القيادة العامة، فجأة ظهرت سيارة في الشارع العام، فاعتقد أن أمره قد انكشف. وتكررت الدهشة بمثلما عقدت لساني من قبل حينما ختم المذكور روايته تعليقاً على الخوف أو القلق – سيان – الذي اعتراه ساعتئذٍ، وقال (لأنو طبعاً زي ما بقول المثل السوداني، الحرامي في رأسه ريشة) ودونما اكتراث لحجارة السجيل التي ألقاها على رؤوس العباد، أعيد بث هذا اللقاء بعد ثلاث سنوات (يونيو2005) بمناسبة ذات الذكرى التعيسة. ولمزيد من التفاصيل يمكن للقارىء أن ينظر ص62 في كتابنا المعنون بـ (سقوط الأقنعة/ سنوات الأمل والخيبة)!
تعلمون أن تلك من الكبائر التي لو جرت على لسان رئيس في حكومة محترمة لزلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها. لن نذهب بعيداً، فالدولة التي تقف على رأس فسطاط الكفر كما يقولون، حاكمت رئيسها على رؤوس الأشهاد وبشفافية لا تعرفها (الشريعة المدغمسة) التي يتباهى بها (السارق الأمين) فالولايات المتحدة الأمريكية لم تحاكم رئيسها بيل كلنتون حينما شاع خبر علاقته مع مونيكا لوينسكي، المتدربة اليافعة في البيت الأبيض. لم تحاكمه بتهمة (الشروع في الزنا) وإنما بالكذب تحت القسم كما تقول الثقافة العدلية الأمريكية. وهب يا قارئي الكريم أنهم حاكموه بالأولى، فما الذي ستقوله العصبة الحاكمة في تهمة كالوا من حرامها ما أبغض الناس في حلالها. إذ لم يكتفوا بالمثنى والثلاث والرباع، بل جاد بعض ممن له فضل ظهر على من لا ظهر له، فليس غريباً بعدئذ أن يسمع القوم بمسميات للنكاح لم تجر على لسان سلف ولا خطرت على قلب خلف!
اللقاء التلفزيوني المذكور جاء فيه ما هو أنكى وأمر. حكى فيه المشير كذبة بلقاء أخرى مصحوبة بتلك الضحكة العجفاء التي تعرفون، قال إن ذهنه تفتق عن حيلة. إذ اتفق مع طبيب الوحدة العسكرية (لعلها المجلد/ غرب السودان) أن يكتب له تقريراً طبياً يزعم فيه أنه مصاب بــ (مغص كلوي) حتى يتسنى له الغياب عن العمل. تأبط تقريره هذا ويمم وجهه شطر العاصمة الخرطوم لمعانقة مجد بائس. وهناك تمدد الكذب بحسب وقائعه. إذ ذهب للقيادة العامة صبيحة خميس الانقلاب، وتعمد أن يقول لكل من يستفسره عن سبب حضوره إنه جاء لمتابعة إجراءات سفره للمشاركة في كورس بجمهورية مصر العربية. قد يقول أصحاب مذهب (فقه الضرورة) إن ذلك من باب التمويه. ولكن هبْ أن ذلك كذلك. فكيف لرأس دولة أن يبث كذبه بالصوت والصورة ويتباهى به بعدئذٍ؟ إن مثل هذه الروايات لو جرت على لسان رئيس يحترم نفسه في دول (البغي والعدوان) لإلتصق أسمه بجريرة لا تُبلى وسقط من شاهق!
غلب الطبع التطبع كما يقولون، فبعد نجاح الانقلاب لم نكن بعدئذ في حاجة لمزيد من القصص. تصدر (عمر الكضاب) قائمة الناكرين، فلم يكتف بنفي ما ظلت تنفيه عصبته حول علاقة الانقلاب بالجبهة الإسلاموية، ولكنه زايد بمكابرة فجة حتى صدّق كذبته. منها ما حدث أثناء ما عرف بالمفاصلة مع جناح الترابي، ففي مزايدة على الأخير وهو عراب الانقلاب نفسه، ادّعى المشير أنه ليس عضواً في التنظيم وحسب وإنما والده العارف بالله (حسن أحمد البشير) تتلمذ على يد حسن البنا وبايعه وضع اليد باليد. ثم مضى بعد أن جاءته الرئاسة تجرجر خيبتها يتحرى الكذب ويتبعه كظله كلما صعد منبراً وهش بعصاه على الكاظمين الغيظ والصبر. بل لم يجد ثمة مناص من أن يكذب بقسم (غموس) عندما خطب في جمع يوم 29/6/2006 بميدان الساحة الخضراء، وقال إنه لن يسمح بدخول أية قوات أجنبية طالما هو في سدة السلطة. وأعطى وعداً لسامعيه بتأكيد (أنه يفضل أن يقال عنه مجاهد وقائد للمقاومة، وليس رئيس دولة محتلة) ومن قبل أن يتبخر حديثه في الهواء، لم يفاجأ الذين يتابعون كذبه بوجود أكثر من أربعين ألف جندي أجنبي يسرحون ويمرحون في عرصات السودان، لم يكتفوا بوضع أحذيتهم الثقيلة على صدور شعبه، بل مدوا لسانهم ساخرين من المتوعد الهمام!
واقع الأمر أنني لم أعجب بمزايداته على عراب الانقلاب الترابي، بقدر ما زاد عجبي في أن (أسد البرامكة) الذي قبل لنفسه أن يكون ديكوراً لعقد كامل من الزمن تحت إبطه، لم يجرؤ خلاله على أن يرفع صوته أو عينه على شيخه كما كان يناديه في الصوالين المغلقة، بينما ظل يرقص طرباً في الهواء الطلق كلما ترنم فنان أسمه (قيقم) بـأغنية (النار ولَّعَا وأتوطّا فوق جمُرَا) ولمزيد من الدهشة كنت قد ذكرت في كتابنا (الخندق/ أسرار دولة الفساد والاستبداد) أن من دأب على الرقص كلما ضربت له الدفوف، ضُربت عليه الذلة والمسكنة أيضاً، فلم يلتق الترابي وجهاً لوجه أي لوحدهما في العشرية الأولى كلها سوى مرة واحدة، كان ذلك بعد حدوث محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أديس أبابا في يونيو 1995 فقد كانت كل المقابلات السابقة في معية آخرين بما فيها الأولى التي كانت قبيل الانقلاب بيوم أو يومين تقريباً. وبعد هذا لابد أن البعض ممن أقلقهم تنطع الرئيس الضرورة بنقائه العرقي، تساءلوا بمثلما تساءلنا عن رئيس يرقص على أشلاء خيبته وهو يعلم أنه ليس برئيس!
يعلم البعض أيضاً ما ذكرناه في مقال سابق، كيف قتل الرئيس الضرورة فتاة يافعة عام1987م أي قبل الانقلاب. حدث ذلك أثناء حفل زواج في بلدة (بفرة) التي تقع بين المجلد ولقاوة والضحية إحدى فتيات قبيلة المسيرية. جاءت لتنعم ببعض الفرح والسرور وتُمنِّى نفسها بفتى الأحلام القادم، فإذا بحلمها يصبح في لون الدم وطعم الموت، حيث جاءتها رصاصة طائشة من الرئيس الذي كان يرقص ببندقية كلاشنكوف، راح يتباهى بها فانطلقت منها رصاصة استقرت في صدر الفتاة. ضحيتئذٍ وبطريقة أهل السودان المعروفة في الحلول (الجودية) قال لنا قارىء كريم أن زميل المذكور في القوات المسلحة ويمت بصلة قربى للضحية، وهو المقدم بندر البلولة حيدر تدخل للحئول دون أن تتصاعد القضية وتصل للقضاء. وقيل إن (الأجاويد) حلوا الأمر بفرض مبلغ من المال على سبيل (الدية) وقد قبل بها أهل الفتاة، ربما كرماً منهم أو لأن للفقر الذي طال معظم أهل السودان أحكامه. واقع الأمر، القصة نفسها ذكرها صديقنا العميد (م) السر أحمد سعيد في كتابه (السيف والطغاة) ص 251 بذات التفاصيل والتي ختمها بقوله (إن مثل ذلك التصرف الأخرق أقل ما يمكن أن يعاقب به صاحبه هو الإبعاد من الخدمة. لكن من سخريات الزمن ومن بدع العالم الثالث أن يظل ذلك العميد "الأشتر" في الخدمة في صفوف القوات المسلحة، بل ويصبح قائداً عاماً وقائداً أعلى لها) وقد يقول قائل إن الرجل لم يقصد، وأفرض نحن وافقناه. ولكن ماذا يقول في جنديٍ لم يحسن أبسط أنواع صنعته، وهي تصويب السلاح نحو هدفه؟!
حتى أكون منصفاً كما ذكرت، لا يعني ذلك أن الرئيس الضرورة لم ينطق صدقاً، فقد فعلها مرة واحدة بحسب رصدي. ذلك عندما خاطب ختام مداولات المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي حول الخطة الخمسية يوم 12/6/2007 وقال: (يا جماعة نحن جينا لهذا الموقغ عساكر وتعلمنا بعض الشيء من خلال وجودنا في مجلس الوزراء، وما يدور في لجان التنمية) فحزنت لحال شعب يتيم تعلم الجهلاء الحلاقة في رأسه!
وإلى الحلقة القادمة التي نميط فيها اللثام عن المخبوء تحت اللسان وخلف الجدران!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية ولو طال السفر!!