المتابعون

الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

نداء خاص للمغتربين والمهاجرين السودانيين

كنا قد ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي، أننا نحن معشر السودانيين وجدنا أنفسنا في ظل حُكم العُصبة ذوي البأس نرزح بين فسطاطين. مستغربون يقبعون تحت ويلاتهم في داخل الوطن، ومغتربون يكتوون بنيران سياساتهم وقد تبعثروا في مختلف أصقاع العالم. ليس هذا فحسب، بل إن من نكد الدنيا على هؤلاء وأولئك ألا يعرف أحد عددهم أصلاً حتى يستقيم الحديث عنهم بصورة منهجية. لكن للدقة يمكن القول إن العُصبة عملت مرتين على إحصاء مستغربي الداخل خلال فترة حكمها التي تمطَّت وتثاءبت وبلغت ربع قرن إلا بضع أشهر. ومن المفارقات التي لن تدهش أحداً أن كلا المحاولتين كانتا لأسباب غير ما دَرج الناس على تعريفه بـ (الإحصاء السكاني) والذي يتعين على الحكومات المحترمة إجراءه حتى تستطيع إنفاذ مشاريعها التنموية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن العصبة المتجبرة أسقطت كل هذه الغايات النبيلة واستبقت وسائل القهر التي تضمن بقاء السلطة في حضنها بثلاثٍ شدادٍ. فتأبطت بهن شراً سمته (التمكين) وعاثت به في الأرض فساداً وطغياناً واستبداداً!
تذكرون يا سادتي أنه في بواكير تسعينات القرن الماضي، أعلنت السلطة الغاصبة عن عزمها إجراء إحصاء سكاني في 24 ساعة فقط. ومن عجبٍ أنها فعلت ودخلت به (موسوعة جينيس) للأرقام القياسية، وكأن الناس لا يعلمون أنه كان محض إحصاء أمني في إطار خططهم الرامية لاحكام القبضة على خناق الشعب السوداني. يومذاك فرضوا على المواطنين عدم مغادرة منازلهم مهما كانت الدواعي، وطافوا عليهم بمعلومات ظاهرها الإحصاء وباطنها الإخصاء، بغية تحقيق الغرض المذكور. أما المرة الثانية فقد كانت قبيل مهزلة الانتخابات الأخيرة التي أُجريت في العام 2010 وكان بهدف التمهيد لإجراء تزوير ممنهج لتلك الانتخابات. الأمر الذي تمَّ وفق ما خُطط له أيضاً، وبموجبه أُطلق عليها في الثقافة الشعبية (انتخابات الخج) فصارت اسماً على مُسمى. وسواءٌ هذه أو تلك، فنحن لسنا بصدد تأكيد أن العصبة تحكم قوماً لا تعرف عددهم، فهذا أمر لا يمكن أن يفوت حتى على فطنة (ذبيح الله مجاهد) الناطق الرسمي باسم إمارة طالبان الإسلامية. لكن ما نود تثبيته بحكم الواقع أن الأحياء والأموات في قاموس العصبة يتساوون في الرثاء. ألم يقل الرئيس (الضرار) إن عدد ضحايا حرب دارفور لا يتعدون عشرة آلاف قتيلاً!
بيد أن مغتربي الخارج ليسوا بأحسن حالاً من سابقيهم، مع فارق أن العصبة لم تجهد نفسها بإحصائهم.. لا سهواً ولا عمداً. ذلك لأنها ببساطة لا تحتاجهم في تزوير انتخابات وضعت سداً بينهم وبينها. كما أنها لا تخشاهم في زعزعة أمنها لأنهم واقعياً يوجدون خارج نطاق قبضتها الجغرافية. وعوضاً عن هذا وذاك فتحت منافذ البلاد على مصراعيها ليخرجوا زرافات ووحدانا في هجرة جماعية لم يشهد السودان لها مثيلاً. الغريب الذي لن يفجع أحداً أيضاً، أن العصبة تقر هذا التهجير بلسان ينضح تباهياً. فقد قال كرار التهامي إن جهاز شئون المغتربين الذي يدير مملكته، يُصدِّر ثلاث آلاف تأشيرة خروج يومياً (المذكور قال في حديث منشور إنه عُين في هذا المنصب بحكم أنه كان “غواصة” للجبهة الإسلامية أيام الطُلب، فتأمل!) كذلك قال فرح مصطفى وزير العمل إن عدد المغادرين في الربع الأول من العام الماضي 2012 بلغ نحو عشرين ألف مواطن. عليه يمكن القول إن العصبة أدخلت الإنسان السوداني ضمن الصادرات بأمل أن يدر عملات صعبة تسد بها جشعها، ولهذا لا غرو أنه كلما تكاثر أعداد الفارين من الجحيم، تنامت شهية العصبة لمزيد من الجبايات بدءاً من دمغة الأحياء، وانتهاءً بدمعة الأموات!
بما أن السوء بالسوء يذكر، كلنا يعلم أن سدنة العصبة يُشنفون آذاننا بحديث يكاد يفقد المرء وقاره من الضحك. فهم مثلاً يحدثونك عن فوائد الظلام عندما يتواتر انقطاع الكهرباء، ويذكرونك بضرورة الاستشهاد إذا وضعوا أعينهم على إرث طمعوا في أيلولته إليهم بعد رحيلك عن الدنيا، وإذا أفلست الدولة وصارت خزائنها خاوية على عروشها من أثر الفساد – مثلما هو الحال الآن – يقولون لك إن لهذا من صنع المتآمرين والطابور الخامس والإمبريالية العالمية. على ذات النسق، قال الرئيس المشير ضمن هرطقاته في المؤتمر الصحافي 23/9/ 2013 إنه اتّفق مع وزير المالية للسماح للمغتربين بإيداع أموالهم بالعملة الصعبة، وسحبها بنفس العملة متى ما شاءوا. هل سمع أحدكم برئيس جمهورية يمارس أفعال الحواة؟ فبغض النظر عن أن حديثاً كهذا يعبر عن طبيعة السلطة الديكتاتورية لأنه اتفاق بين رئيس ومرؤوس نُثر على الهواء الطلق.. كيف لرئيس ألا يحسن الظن بذكاء مغتربيه فيتحايل عليهم بالحديث في أمر يعرفون دوافعه الآن، ويحدثهم في زمن أصبحت سلطته كمنسأة سيدنا سليمان تنتظر الإسقاط. أشهد أنني رأيت الكثير من الفهلويين في حياتي ولم أك في حاجة للمزيد، وواقع الأمر كنت قد كتبت من قبل وقلت إن الرئيس المشير رجل كذوب، ولم أفتر عليه كذباً، فقد جاء حديثنا مشفوعاً بالأقوال والأفعال الموثقة، ومع ذلك ما كنت أظن أنني أحتاج لنعت شخص يوماً بشيء أبغض من الكذب.. وأتضاءل حياءً من ذكره!
ذكرنا في المقال الماضي أن تحويلات المغتربين عبر المنافذ الرسمية تبلغ نحو 5 مليار دولار سنوياً. وقد قرأت منذ نحو أسبوع أن هذا الرقم انخفض قليلاً لأسباب غير معروفة بالنسبة لنا، إذ بلغت تحويلات العام الماضي 2012 نحو ثلاث مليارات دولار ومائة واثنين وسبعين مليوناً. وكنت قد ذكرت في مقال سابق معلومة موثقة، تقول إن السفارة السودانية في الرياض تقوم بإيداع 2 مليون ريال يومياً في حسابها البنكي (عبارة عن حصيلة مختلف الأنشطة التي فصلّناها في المقال المشار إليه) ويزيد هذا المبلغ في بعض أيام الأسبوع، نقول ذلك لمن يريد أن يستخدم الآلة الحاسبة في عمليات الجمع والطرح، أو الكر والفر بلغة العصبة الباطنية!
كذلك يطيب لي دائماً التذكير بأرقام يجتهد المنقذون دائماً لمحوها من الذاكرة الجمعية لأهل السودان، هذا على الرغم من أنها من بنات أفكارهم وليست من انتاج المعارضين والمغرضين والعملاء. أما تكرارها في مقالاتنا فيجيء أولاً من باب الذكرى التي تنفع الغافلين. وثانياً حتى يعلم الناس أنهم أُفقروا في بلدٍ غني بكل المقاييس المعروفة. فبالإضافة لتحويلات المغتربين البالغة 5 مليار دولار سنوياً. نقول إن عائدات البترول في الفترة من العام 1999 أي العام الذي شهد تصديره لأول مرة وحتى العام 2011 أي عام انفصال الجنوب، كانت نحو 70 مليار دولار. أضف إلى ذلك الموارد الطبيعية الأخرى والمعادن، وأضف الصادرات الحيوانية والزراعية من قبل أن تعبث العصبة بمشروع الجزيرة وإخوانه. فكيف يفلس بلد بهذا الثراء العظيم؟ وفي واقع الأمر نحن لا نخوض في تفاصيل فساد وثقنا له حتى كلَّ متننا ومتن غيرنا من الراصدين. كما أننا لسنا بصدد إعادة سيرة استبداد فاض كيله، فدونكم قولاً لم يجف رذاذه بعد، وهو ما تجسد في حديث (الهوت دوق والبيتزا والمساكن الشينة وركوب البكاسي) فإن لم يكن هذا هو الاستبداد بعينه، فقل لي يا صاح بالذي خلقك من ماء مهين، كيف يكون الاستبداد عندئذٍ؟ فنحن نعلم وأنتم تعلمون أن هذه العصبة عبثت بالمكونات الروحية والمادية لأهل السودان لدرجة يمكن أن يقول المرء إنه لولا دفع الله السودانيين بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً!
من المؤكد إن الناس في حيرة من أمرهم وقد تخالط صبحهم مع مسائهم، فالرئيس الضرورة مشغول بما يحب من نعم الدنيا الزائلة، أو إن شئت فقل شُغل عمداً بحسنييها معاً، ولعل بعضنا لاحظ أنه يكرر أرقاماً ويلوكها منذ سنين دون تمعن في مطابقتها لواقع يعيشه الناس ولا يحتاج (لدرس عصر)! مثلاً ما عاد الحديث عن سد مروي يجدي بعد أن مثل قمة الفشل كمشروع كثير الكُلفة قليل المردود. لكن إن أحببت أن تعلم يا عزيزي القارئ شيئاً عن النمل الذي أكل السكر وأفقر البلاد وأهلها فتأمل فقط في ما تحاشى الرئيس الضرورة ووزير ماليته الهمام الخوض فيه، وهي مخصصات البدعة المسماة بالدستوريين والذين يستحوزون على مخصصات تنوء بحملها السطور. العاملون منهم في جهاز الدولة يبلغون الآن نحو 828 دستوري كامل الدسم، في حين أن عددهم كاملاً يبلغ نحو 9025 وهم الذين تقلدوا مختلف المناصب منذ العام 1989 وبالرغم من أنهم غادروها فهم ما يزالون يحظون بمخصصات كاملة. في حين أن ساكن القصر وسدنته، من مساعدين يُفع ونواب رُفع وآخرين من وراء حجاب، تبلغ مخصصاتهم الشهرية نحو مليون دولار شهرياً. وتعلمون من كثرة ما ذكرنا وكررنا أن العصبة ظلت تخصص 70% من الميزانية طيلة ربع قرن للأمن والدفاع، أي لقتل شعوبنا بالحروب المتواصلة، في حين خصصت نسبة 10،4% للصحة والتعليم. ولعل محصلة كل ذلك حالة الإفلاس الكامل التي أطبقت على الدولة الآن، فقد وصلت ديون البلاد إلى أكثر من 45 مليار دولار، وتفشت البطالة لتسجل رقماً قياسياً، إذ بلغت نسبتها نحو 47% ونسبة الشباب بينهم أكثر من 70% أما التضخم فقد وصل إلى ما نسبته 43% فهل بعد هذه الأرقام يمكن لجفن أن يغمض أو قلب أن ينبض أو لسان أن ينطق؟
صفوة القول، ماذا نحن فاعلون؟ لا شك أنه في مثل هذا المناخ سيسيطر على عقولنا هذا السؤال الحائر، وسنظل نردده في صحونا ومنامنا، في سرنا وجهرنا، ونحن نرى الحراك الوطني قد بدأت نذره تمطر ثورة من سماء حبلى بأحداث جسام. وفقاً لما فصلناه، دعونا نوجه نداءً مخلصاً للمغتربين والمهاجرين بدعوتهم لقصر تحويلاتهم المالية في إطار الحد الأدنى، أي في حدود العيش الكريم للملتزمين نحوهم من أسرهم وأهلهم. وليتهم يغلون أيديهم عن أي تحويلات دون ذلك، سواء كانت مشاريع استثمارية أو شراء عقارات أو أراضٍ أو منازل أو أي شيء من هذا القبيل، وذلك حتى يوصدوا الباب أمام نظام ظل يوجه تحويلاتهم في أطر لا تعود على الوطن وأهله بفائدة مرجوة!
نعم نحن مجتمع تكافلي، ونحمد للمغتربين والمهاجرين أنهم حافظوا على هذه الشعيرة فشملت رعايتهم الأسرة الممتدة وهم يتابعون شهيق وزفير الوطن بقلوب واجفة ولا يدرون ما يفعلون. بل يمكن القول لولا المغتربين المبعثرين في فجاج الأرض، ولولا دول الاغتراب التي عشنا في رحابها سنين عدداً، لأصبحنا أمة متسولة بامتياز ونحن نئن تحت كلكل ديكتاتوريات تعد أنثى الملاريا (الآنوفيلس) أرحم منها في مص دمائنا! وبالطبع نحن لا نهدف من وراء هذه الدعوة لفصم عُرى هذه العلائق الاجتماعية التي نعتز بها، بقدر ما نريد أن تتكامل تضحيات من هم بالداخل مع مجهودات من هم بالخارج، للتخلص من نظام يعيش سكرات الموت الذي كانوا منه يحيدون!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!.

الأحد، 15 سبتمبر 2013

هلْ يَزحف الحَرَاك السُّوداني نحو خيار الصِفر؟!





فتحي الضَّـو
توقفت عن الكتابة لفترة  تربو على الثلاث أشهر، وهي فترة تطاولت حتى شعرت كأنها دهراً بالنظر لما نحن فيه غارقون. وفي الواقع لم يكن التوقف أمراً خُطط له أو قُصد عمداً، فهو قد جاء نتيجة ظروف اتصل بعضها برقاب بعض فحالت دون التواصل الراتب المعهود. هذه الظروف قد بدأت أولاً بدواعي أسفار، ثمَّ أعقبتها مظاهر أسقام، وبالطبع لا هذا وذاك يعنيان القارىء في كبير شيء، ولذا سنتجاوزهما بالحديث فيما ينفع الناس. بيد أنه بعد أن قضيت أوطاري من الأولى، وقضت الثانية أوطارها من جسمي، كان التأمل ملاذنا فيما تفاقم أثره وعظُم أمره في حال البلاد والعباد. وتعلمون إنه حال كثُر فيه توصيف المُنظرين، فمرة يقولون عنه إنه مُشكلة، وتارة أزمة، وثالثة كارثة. ولعل الأخيرة صارت أكثر واقعية بعد أن أنشبت أظفارها على الاثنين معاً وباتت تهددهما بالزوال جغرافياً وديمغرافياً. ولا يظنن أحد أن في ذلك شطح أو نطح أو حتى ضرب من ضروب المبالغة، فالأمثلة في عالمنا كثيرة وجميعها حالها يُغني عن سؤالها. أما في واقعنا فالشاهد أن انفصال الجنوب بالأمس، وما تمور به دارفور اليوم، هي محض مقدمات في إمكانية حدوث ما تأباه نفس كل وطني غيور!
أياً كان الحال أو ما سيؤول إليه، يمكن القول إن الفتق قد اتسع فعلاً على الراتق. فالأمر بمنظورنا لن يتوقف عند سقوط أو اسقاط النظام بقدر ما سيتوقف على التركة التي سيخلفها من ورائه، وهي الغاية التي لا ينبغي أن تتقاصر دونها الوسائل حتى يتم التعامل معها بمسؤولية تبعد عن الوطن شبح إعادة إنتاج الأزمة، فالعاقل من اتّعظ بغيره واستبان النصح قبل ضحى الغد. ولا يمكن القول إن هذه المعطيات مؤتمنة في ظل تكاثر الكتابات حول الشأن السوداني. فهذه الظاهرة – أي الكتابة - رغم أنها محمودة إلا أنه في تقديري غلب غثها على سمينها، واختلط فيها الحابل بالنابل كما يقولون. وإزاء هذا الوضع يخشى المرء أن تضيع قضايا الوطن الأساسية كما ضاع (عِقد على جيد خالصة) لهذا رأينا من المفيد استخلاص بعض النقاط التي ينبغي علينا التركيز حولها وتأملها بغية رسم خارطة طريق تعيننا فيما نحن فيه سادرون. ولأن المهم هو الحوار، حري بنا التأكيد قبل تسطير هذه النقاط، القول إنها تقبل الاختلاف بذات الروح التي تقبل بها الاتفاق. وسواء هذا أو ذاك، نأمل أن تشفع لنا غيابنا لدى القارىء، فهو من حقه أن يتوعَّد كاتبه مثلما توعَّد سيدنا سليمان هدهده إن لم يأته بالخبر اليقين!
أولاً: أصبح السودانيون يعيشون حياة غير طبيعية، مستغربون في الداخل ضُربت عليهم الذُّل والمسكنة، ومغتربون في الخارج لا عدّ ولا حصر لهم، لكن السلطة الغاشمة تعرفهم بسمائهم، أي عندما يضخون الخمسة مليار دولار سنوياً في الجسد المتهالك (تمثل 5% من الناتج المحلي، بعد البترول مباشرة قبل وبعد الانفصال) لكن المؤلم أكثر في حديث الأرقام، أنه عندما تسنمت العُصبة مقاليد السلطة قبل ربع قرن، كانت الطبقة البرجوازية - بحسب التوصيف الماركسي – تعادل نحو 2% من سكان البلاد، وكانت الطبقة الوسطى التي تعد بمثابة العمود الفقري للمجتمع توازي نحو نحو 48% وقدرت نسبة الفقراء والذين هم تحت معدل الفقر بنحو 50% بلا أي تمايز طبقي. لكن هذه النسب تخلخلت بعد هجوم التتار وظهر المجتمع الطبقي بكل سوءاته. إذ أصبحت الرأسمالية الطفيلية تقدر بنحو 5% ويمثلون السلطة الحاكمة وأزلامها، وهم من صار يتحكم في مصائر نحو95% من السودانيين بعد تذويب الطبقة الوسطى واندغامها مع قواعد الفقراء. وهي ذات النسبة التي يشار إليها باعتبارها نسبة الفقر في السودان بحسب الاحصائيات العالمية. وسواء زادت أو نقصت فهذه ليست أرقاماً صماء فقد عملت بالفعل على (إعادة صياغة الإنسان السوداني) سلباً على عكس ما زعموا. فلا غرو بعدئذٍ أن رأينا الكذب وقد حلّ مكان الصدق، وطغى الجبن على الشجاعة، واستشرى النفاق وانحسرت الصراحة، وتسيَّدت الرذيلة على الفضيلة، وشاع الحسد وتضاءل الإيثار، وانتشر الاحتيال وتوارت الأمانة، وفي خضم هذه المحرقة أصبح القابض على موروثه من الخلق السوداني القويم كالقابض على الجمر!
ثانياً: يعد الفساد المالي والأخلاقي من أسوأ ما نتج عن حُكم العُصبة، ذلك لما له من تبعات كثيرة عملت على تغيير الأنماط السلوكية للشخصية السودانية بحسب ما ذكرنا. وكنا قد كتبنا عن فساد العصبة بوثائق دامغة، وبالرغم أنها كادت أن تُطيِّر عقول قارئها إلا أنها لم تحرك ساكن من كانوا في غيِّهم يعمهون. على كلٍ ينبغي التأكيد من باب التوثيق على أمرين هامين تميز بهما فساد العصبة ذوي البأس. أولهما الحقيقة الراسخة التي تؤكد أن هذا الفساد يعد الأكبر كماً ونوعاً في تاريخ السودان على الاطلاق. وثانيهما، بالنظر لما يدّعونه فقد أصبح فساداً مؤدلجاً. تداوله أصحاب الأيادي المتوضئة ضغثاً على إبّالة، كأحد شعائر الدين التي يؤجر عليها المتسابقون. ودونكم قضيتان نوردهما من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين (فساد وزارة الأوقاف، وفساد شركة الأقطان) فأبطالها هم أنفسهم رعاة الدولة الدينية، وهم أنفسهم ممن يرتادون المساجد ويعتلون المنابر، وهم أنفسهم من يذرفون الدمع السخين حتى تبتل أذقانهم وهم متبتلون. وأرجو ألا يعتقد أحدكم أن الشفافية هي التي فتحت صحائفهم، فهذا ببساطة حدث في إطار مقاصة في حرب الجماعتين المتناحرتين في سدة السلطة. لكنني لن أغادر محطة الفساد هذه من دون أن أزودكم بوثيقة جديدة تطالعونها أسفل المقال، وقد وصلتني ضمن وثائق عدة سنعمل على نشرها. والحقيقة ما كنت سأفعل لولا أن صاحبها هو من وصم الشعب السوداني بـ (الشحادة) من قبل، وزاد عليها الآن بقوله لصحيفة الجريدة 13/9/2013 بأنهم قوم (متعودون على الرخاء ويصعب فطامهم) فتأملوها يا سادتي بلا تعليق، فقد تدركوا أن الموصوف عُرفاً بـ (الطفل المعجزة) تثاءب وتمطى وتساوت عنده الملايين والملاليم وبينهما طازج! 
ثالثاً: يقولون إن الاستبداد يولد الفساد وما في ذلك شك بالطبع وإن كان العكس صحيحاً أيضاً. لكن ما بالك لو قلنا إنه – أي الاستبداد – له لسان وشفتين في البلد الصابر أهله. ففي أعقاب كوارث السيول والفيضانات الأخيرة، لم يكن المواطنين المكلومين ينتظرون من السلطة أن تهديهم خيلاً ولا مالاً، لكن والي الخرطوم عبد الرحمن الخضر - قدّس الله سره - نطق بمشاعر الاستعلاء وطبائع العنجهية التي درجت عليها العصبة وأدلى بتفسير غريب في فقه الأزمة والكارثة. لحق به أيضاً معتمد الخرطوم الذي أعاد للأذهان قصة ماري أنطوانيت. وفي واقع الأمر هما امتداد لخطاب برعت فيه عصبتهم، ولو أنهم التفتوا قليلاً للمخطوط في باطن كتب التاريخ لما كلفوا أنفسهم مغبة الحديث. فهذا هو نفس الخطاب الذي عدّه عبد الرحمن بن خلدون من مظاهر زوال الحكم، وهو نفس الخطاب الذي حسبه عبد الرحمن الكواكبي من علامات زوال الدولة. ومالنا نذهب بعيداً في التنظير، قل لي بربك أين الطغاة الذين كانوا بين ظهرانينا بالأمس في دول الربيع العربي. على كلٍ نخلص إلى ما نود تثبيته وهو أن استبداد العصبة كفسادها تماماً، فهما مؤدلجان ظاهراً وباطناً. فالناطقون به هم أصحاب الأفواه المتمضمضة، وهل في ذلك قسم لتبيان بوار وعوار الدولة الدينية!
رابعاً: الشباب هم عماد الأمة ومستقبلها، وفي السودان يمثلون أكثر من نصف عدد السكان كما تعلمون. لكن المؤلم أن ما نسبته 47% منهم تحاصرهم العطالة والبطالة وتتهددهم السلوكيات التي يمكن أن تنتج عنهما. والحقيقة نحن لم نلهم الاهتمام الكافي وفي صدروهم إنطوي السر العظيم، وهو بالضبط ما كان محط أنظار العصبة على الدوام، فلم يتورعوا في جعلهم وقوداً للحرب الدينية التي ابتدعوها في جنوب البلاد، فألقموها نحو 20 ألف شاب ماتوا (سمبلة) ولم تثكلهم أمهاتهم!
خامساً: إنني على يقين أن الأنظمة الشمولية والديكتاتورية لا يمكن أن تغادر مسرح السلطة إلا بنفس الوسيلة التي تسلطت بها على رقاب العباد. فالواقع إن الذين يروجون لتسوية سياسية تساوي بين الجلاد والضحية، ويحاولون التحايل على ذلك تحت دعاوي ما يسمى بـ (التسامح السياسي السوداني) هم يفعلون ذلك بثمن فاضح. كما أنه انطلاقاً من العجز الذي يحيط بهم، هم يطمحون أيضاً في سلطة تجرجر نحوهم أذيالها المرهقة، أي دون أن يريقوا لها دمعاً أو يهرقوا لها دماً. ليس لأن هذا وذاك هما ثمن الحرية كما في تاريخ الأمم والشعوب، ولكن لأن سنابك خيول المغول الحاكمين هم من بادر وداس مبكراً على التسامح السياسي المزعوم، فأصبح ذلك بعدئذٍ سننهم وفرائضهم في حكم البلاد والعباد. وتأسيساً على هذا، فإن أي تسوية سياسية تسقط مبدأ المحاسبة على الجرائم الجنائية التي ارتكبها جلاوزة العصبة، أو حتى غض الطرف عن الفساد الذي أفقر البلاد، ستكون مجرد تسوية صلعاء تُعيد إنتاج الأزمة!
سادساً: ما أكثر شرور العُصبة حين تعدها، فهل بعد تأجيج نيران القبلية والإثنية حديث لمدكر؟ وفي تقديري أن الظاهرة هي نتاج أمرين لا ثالث لهما. الأول أنهم أقدموا على ذلك من أجل تغذية غريزة البقاء في السلطة، وهو ثمن بخس لو كانوا يعلمون. أما الثاني فهو نتاج طبيعي للحروب المتواصلة التي شنتها العصبة على شعوب السودان في الربع قرن الماضي. فقد بذل سدنتها ما وسعهم في تكريس منهج (فرق تسد) وهو أيضاً منهج بائس لو كانوا يدرون. فهذه الظاهرة عملت على تفتيت النسيج الاجتماعي وتهتكه، وهذه الظاهرة ضعضعت التعايش السلمي بين شعوب ومختلف قبائل السودان، بل إن هذه الظاهرة وضعت السودان كله ألان في (كف عفريت) لا سيَّما، وأن شبح الحروب الأهلية المُوسعة بات يدق على الأبواب بعنف. ومن عجبٍ فإن هذه الفئة الضالة تظن من فرط سُكرها بالسلطة أن النار إذا ما انداحت واتسع محيطها فسيكونون من الناجين!
سابعاً: كلنا يعلم أنه كلما تشبثت الديكتاتوريات بالسلطة عملت على تحويل مجتمعاتها إلى كائنات مسلوبة الإرادة. ليس هذا فحسب فالمتأمل للواقع السوداني يدرك تماماً أن الديكتاتوريات التي رزئنا بشرورها، وبالأخص التي نتلظى بنيرانها الآن، عملت بمثابرة متواصلة على تدجين الشخصية السودانية وفق مفاهيمها وتصوراتها وتهيؤاتها، ولا يمكن القول إنها لم تجد من استجاب لدعاويها وهي تعلم أن ذلك لن يعصمها من الهلاك. فهي في نهاية الأمر تريد مواطناً مطيعاً ينجز واجباته ولا يتحدث عن حقوقه، وتوهمه بأنها تفكر نيابة عنه، وتقنعه بأنها تعرف ما يضره وما ينفعه. والمفارقة أن الأمر في حالة (دولة الصحابة) الماثلة بين أيدينا يزداد تعقيداً، نسبة لاختلاط المقدس بما تعارف عليه العقل البشري. فهؤلاء يزعمون أنهم يحكمون بتفويض من رب العالمين، وبالتالي فإن ما يقررونه يأتي مبرأ من الخطأ لأنه من شيم الخَلق. نقول ذلك بعد أن لاحظنا أن الديكتاتوريات بذلت ما وسعها لتكبيل الإنسان السوداني عن إعمال الفكر، بل اجتهدت لاغتياله وليس تكبيله، تماماً مثلما حدث للأستاذ محمود محمد طه. وبالنظر لواقعنا يمكن القول إنها نجحت في محاربة الفكر بدليل أنه بعد ما يناهز الثلاثة عقود زمنية على رحيله، لم تستقبل المكتبة السودانية عملاً فكرياً متكاملاً سوى كتاب الدكتور محمد محمود الذي صدر مؤخراً تحت عنوان (نبوءة محمد/التاريخ والصناعة) فبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع كاتبه، فالثابت عندي أن الكتاب وفق الجهد المبذول فيه، يعد علامة هامة في إحياء سنن بضاعة كسدت، أو فلنقل كادت أن تكسد في الواقع السوداني!
من جهة أخرى، لعل الذين يتابعون الوسائل الإعلامية العربية عموماً والمرئي منها على وجه الخصوص، تأخذهم الغيرة في مشاهدة الحوارات الفكرية الثرة بدرجة يكاد المرء يعجز عن متابعتها. هؤلاء يدلون بآرائهم المثيرة للجدل بعمق وثبات ووضوح، نشاهد ذلك في مجتمعات المغرب وتونس والجزائر ومصر والعراق ولبنان وسوريا.. ألخ، وبعضها يمر بفترات مخاض عنيف. في الوقت الذي نتضاءل معه ضعفاً ونتوارى خلفه خجلاً ونعجز في التعبير عن خيبتنا حتى في عرض قضايانا السياسية ناهيك عن الفكرية. أنظروا إلى ما أنتجنا خلال حقبة ربع قرن في ظل دولة (المشروع الحضاري) ففي بدايتها تشدق الدكتور حسن الترابي عرّابها وخريج السوربون بقوله (يكفي أن اسم السودان أصبح على كل لسان) وسيان الأمر عنده أكان ذلك خيراً أم شراً. ثم أنظر لحوارييه وهم يعيشون وهم المشروع بزاد قوامه عبارات (لحس الكوع) و (بلوها وأشربوا مويتها) و (سلخ جلد الكديس) وفي تقديري أن الحركة الفكرية الدؤوبة في بعض المجتمعات المذكورة هي التي جعلت بينها وبين تمدد الإسلام السياسي سداً، وحالت دون أن يغرس شوكه المسموم في لحمها. كما يمكن القول إن الفقر الفكري الذي نعيشه هو الذي جعل تجربة الإسلام السياسي البائسة تتمدد في ساحاتنا منذ أن وضع (أخوان الشيطان) بذرتها في العام 1977 وواصلوا رعايتها في العام 1989 بالانقلاب المشؤوم وحتى يومنا هذا. بتأكيد أن الفقر الفكري الذي نعيشه هو الذي جعل منّا دولة هامشية رغم تنطع الترابي، وتعلمون أن أي أمة لا تجعل من الفكر غاية همها، هي أمة عاطلة وباطلة وتشكل عبئاً على المجتمع الدولي!
ثامناً: إن الفقر الفكري صار متبوعاً بما لا يدع مجالاً للشك بفقر ثقافي وإعلامي أيضاً. فالصحافة التي نطالعها اليوم هي وريثة لصحافة عمرها الآن أكثر من قرن. صحيح أن الديكتاتوريات ناءت بكلكلها على صدرها وأورثتها هذا الحال البيئس، وأزيد أكثر أن الديكتاتورية المحجبة الحالية جعلت من الإعلام هدفاً مركزياً. ففي القطاع المرئي خصصت ميزانية تقدر بنحو خمسة مليار جنية سوداني سنوياً للفضائية التي يُضفى عليها صفة القومية عنوةً وابتساراً لأن هذه المليارات هدفت إلى صُنع الأوهام وضخ الأكاذيب وتزييف الوعي. وحتى تكتمل هذه الرسالة القاصدة فقد تمَّ تأسيس قنوات فضائية أخرى بواجهات مختلفة، وإلى جانبهم عدد من المحطات الإذاعية. أما في مجال الإعلام المقروء فأعلم - يا رعاك الله - أن جميع الصحف (عدا الأيام/ القرار/ الجريدة) مملوكة لجهاز الأمن والاستخبارات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وغني عن القول فثمة تفاصيل يعرفها من كان في المهد صبياً، لهذا كان من الطبيعي أن تكون مواقفها مرتبطة بثيرموتر الأخذ والعطاء. ولكن أرى لزاماً علينا استثناء رهط من الصحافيين والكُتاب الشرفاء، نعرفهم بمواقفهم الراسخة ونخشى أن نؤذيهم إن أفصحنا عن ذكرهم!
تاسعاً: ما يؤرقني حقيقية أن النظام سواء بأفعاله الخرقاء أو بنظرية ردود الفعل، صنع تنظيمات أكثر تطرفاً منه، وقد لا يعلم بعض القراء الكرام أن ثمة 14 جماعة تكفيرية تمارس دعاويها بلا حسيب أو رقيب فوق رؤوسنا. هذه التنظيمات تكفر بعضها بعضاً. إذ تكفر السلطة نفسها أحياناً كنوع من أنواع الابتزاز، وتكفر أصحاب توجهات يفترض أنهم ينهلون من نفس مرجعيتهم، مثلما فعلوا مع السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي، وتكفر كذلك المتصوفة الذين نهضت العقيدة الإسلامية على أكتافهم في السودان. ولعل الناس تابعوا بقلوب واجفة حروبهم المقدسة التي شنوها لتكسير قباب بعض الأولياء من الأموات، والناس أيضاً شاهدوا مواجهات مسلحة في المولد النبوي مع اتباعهم من الأحياء في السنوات المنصرمة، وشمل ذلك محاولات اغتيال الشيخ الصابونابي والشيخ أزرق طيبة. أما أصحاب المذهب العلماني – كما في قاموسهم - فهؤلاء رجس من عمل الشيطان ينبغي اجتثاثه. فهل اعتبرنا يا أولي الألباب، وتأملنا حال وطن يقف على شفا حفرة من الجحيم، علماً بأن مصير الذين وقعوا في ذات الجحيم ماثل أمام ناظرينا!   
عاشراً: نخلص إلى حقيقة مريرة وهي أن البلاد تقف الآن في مفترق طرق، تتحكم فيه ثلاث مسارات، ضلع يقف عليه نظام فاشل، وثانٍ تمسك به قوى سياسية عاجزة، وثالث تتشبث به قاعدة شعبية عريضة تقف لا مبالية نتيجة لكل ما ورد ذكره أعلاه، وثمة شريحة خرجت من بطن الفئة الثالثة هذه وقوامها رهط من المخذلين والتيئسيين والمتشائمين دوماً، وهم من يشيعون أفكاراً هدامة بغية تفتيت عزم الناس، ووهن عزيمتهم، والقبول بالأمر الواقع. وعلى الرغم من سوداوية هذه الصورة إلا أن الراجح عندي، بل هو الذي لم أفقد الأمل فيه يوماً وأكد أن الحراك السوداني سيبدأ الزحف نحو خيار الصفر، وأن مسألة سقوط النظام مسألة حتمية طال الزمن أو قصر. ليس لأن الأزمة الاقتصادية الراهنة هي السبب وإن كانت واحدة من تجلياتها، ولكن لأنها أزمة أخلاقية انطقت الحجر العصيا، وتراكمت أسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمن ألقى السمع وهو شهيد !
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!