المتابعون

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

صلاة الغضب على جنازة الحركة الإسلاموية

تعلمون - يا سادتي - أنه لم يخلُ مقال لنا من مرارة منذ أن تسنمت العُصبة ذوو البأس السُلطة في هذا السودان الصابر أهله، وبالتالي لن يكون غريباً إن جاء
حديثنا في هذا المقال حامضاً ولاذعاً ومفرطاً في نقده، وإلا فقل لنا يا صاحٍ ما عسانا أن نفعل غير الاستمرار في مقاومة الظُلم ومحاربة الاستبداد وتعرية الفساد، ليس كفرض عين فحسب، وإنما مبدأ ورسالة مقدسة لا تحيد؟ ولا يغرنكم الأبالسة إن تمطت سنواتهم وتثاءبت سوءاتهم وناءوا بفسادهم على صدورنا.. فنحن ما زلنا نرى في الغد المأمول فرحاً يشع نوراً ليبدد ظلامَنا ويُفرِّج كُربِنا ويُعوضنا خيراً يلحقنا بالإنسانية ومسيرة التقدم والازدهار.
ومع ذلك نرى أن من حق القارئ الكريم - حامل صخرة (سيزيف) بصنوف عذاباتها - أن نخفف معاناته بالتبسم في وجهه، لعل في ذلك صدقة نؤجر عليها معاً. من هذا المنطلق لا بأس إذاً أن نبتدر مقالنا هذا بنكتة أرسلها لنا صديق عزيز فأضحكني كما لم أضحك من قبل، إذ صادفت هوىً في نفسي ووجدت ملاذاً رحباً بتزامنها مع الواقع المؤلم. فنحن - يا سادتي - قوم من فرط ما تلقينا من رزايا الأنظمة الديكتاتورية وحكومات (الحِجِي والدجل والكُجور) صرنا حيارى،
إذا حزن المرء جراء بلايا داهمته استغفر الله، وإذا ضحك لأمر باغته استغفر الله أيضاً! على كلٍ كانت النكتة بمناسبة كرنفال ما سُمي بالتعديل الوزاري أو الحدث الذي شغلت به العصبة خلق الله ونامت ملء جفونها عن شواردها. تقول: كان هناك أحد المنتمين لفئة (أصحاب المزاج العالي)، وحدث أن كان يمارس هوايته تلك في غرفة مغلقة بها شباكان مفتوحان ذات اليمين وذات اليسار، وفجأة دخل عليه عصفور من الشباك اليمين وخرج من الشباك الآخر. وهنا انتفض صاحبنا مذعوراً بقلب كاد أن ينخلع من قفصه. فنظر باتجاه العصفور وقال له بصوت كسير: يعني عملت شنو بالله؟!
(2)
لم أشغل نفسي كثيراً بهذا التعديل الوزاري، والذي لم يعن عندي شيئاً أكثر من انطباع صاحبنا هذا عن العصفور وما فعل. فهو - في تقديري - مجرد مسرحية من مسرحيات كهنة العصر الجديد. مع ذلك ربما كان الأمر مفهوماً في تكالب العصبة نفسها - ممن عزّ فطامها - نحو سلطة أدمنوها أو تهافت المتطلعين للتزود من فسادها أو تطلع الانتهازيين الذين يريدون الاستمرار في أداء فروض الولاء والطاعة.
ولكن ما لم يكن مفهوماً، كيف انطلت هذه اللعبة الابتزازية على القوى السياسية المعارضة وبعض الأفراد - ونحن فيهم - فانشغلوا بها؟ فهي على الأقل (شهر ليس لدينا فيه نفقة) كما يقول المثل السوداني الدارج، كما أنها ليست عصا سحرية لتحيل هشيم السودان إلى جنة تجري من تحتها الأنهار. ففيم التكعكع والتلكع والتسكع إذن؟ في واقع الأمر إن مثل هذا الاهتمام العشوائي يجب أن يحفِّزِنا لضبط كثير من المصطلحات الخاطئة. كأن يكتب البعض عن الدستور الذي تمّ خرقه، أي دستور يا سادة ونظام العصبة نفسه هو من سطا على سلطة ديمقراطية اغتصب شرعيتها ومزق دستورها إرباً إرباً؟
وفي تقديري أنه نظراً لفعله الحرام هذا، ظلَّت مسألة الشرعية الدستورية هاجساً مؤرقاً للنظام وسدنته، بدليل أنهم حاولوا التحايل عليها كثيراً. مرة تحت مسمى (الإجماع السكوتي) وثانيةً تحت مظلة (التوالي السياسي) وثالثةً بانتخابات زورت جهاراً نهاراً واُطلق عليها تندراً (انتخابات الخج) ولم يبالوا. لهذا يظل هذا النظام نظاماً انقلابياً غير شرعي رغم أنف يوسف القرضاوي شيخ مشايخ قبيلة الإسلام السياسي،
الذي حاول الأسبوع الماضي نسخ هذه الصفة منهم بدعوى تقادم سنينها، والحقيقة لم يكن ذلك سوى تزلف قصد به درء ازدواجية المعايير في حكمه على ما حدث في بلاده الأم (مصر) بل إن المضحك المبكي إمعان العصبة نفسها في مزيد من التحايل، فها هم يفعلون ما فعله فرعون بقِلّة عقِله، حيث ما زالوا يتشبثون بدستور (نيفاشا) مع أن شريكهم فيه نال غنيمته ومضى إلى بناء دولته. فيا من تودون الخوض في مسألة التعديل الوزاري، يرجى وضع ذلك في سياق ما تحكمون!
(3)
أما إن شئنا الابتعاد عن التجزئة وتجارة (القطاعي) التي لا تحرك حجراً ولا تخدم غرضاً، فلننظر للمسألة بصورة أكثر شمولاً، ونكرر ما سبق وقلناها عن مآلات تتزايد احتمالاتها يوماً إثر يوم. فما حدث بالمنظور الواقعي يمكن حصره في خمس نقاط لعلها تفسر وتحدد مسار النقع فوق رؤوسنا وكفى. الأولى: أن ما حدث هو تعبير عن فشل مشروع بائر أصلاً، وبالتالي ما حدث هو هروب للأمام كسباً الوقت. إذ يبدو أن العصبة (كمن عِرف الديار بعد توهم) أدركوا أن الأنشوطة اشتد وثاقها سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وآيديولوجياً حول رقبتهم. ثانياً: ظل وما فتئ هذا النظام يحمل بذرة فنائه في جوفه، ولم يكن بقاؤه كل هذه الفترة جراء قوة ذاتية بقدر ما هو نتيجة ضعف القادرين على التمام كما تعلمون.
وأياً كانت الأسباب فالعبر بالخواتيم، والتي تقول الآن - بلا شك أو تردد - إن الرحيل أصبح وشيكاً، ليس هذا فحسب بل ومكلف أيضاً، في إطار العصبة من جهة وبينها وبين مُعَذَبِيها من جهة أخرى. ثالثاً: تحدثنا عن الفساد حتى كلَّت أيدينا ولن نعيد ما ذكرنا ولكن لابد أن يستصحب المراقب مزيداً من الإرهاق للميزانية العامة إذ سيستمر السلف في نعيمهم ويفتح الخلف نفاجاً لفسادٍ جديدٍ. ويطيب لي للتذكير أن أطرح عليكم هذه المعادلة الصفرية ودعكم من كل قول ثاقب عن الفساد وقصصه،
ونعيدها بناءً على ما أكده الدكتور الطيب زين العابدين في أن راتب أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني يبلغ 31 مليون جنيه سوداني شهرياً ولم يستطع صاحبه له دحضاً، وهو من بقي في هذا المنصب نحو 13 عاماً (31000000×12×13= 4836000000) أي أربعة مليارات وثمانمائة وستة وثلاثين مليون جنيه، هي عبارة عن راتبه في تلك السنوات التي ظلّ فيها لابثاً في كهف المجلس الوطني، حدث هذا في بلد راتب طبيب الامتياز فيه يبلغ 600000 جنيه فقط لا غير، فراتب الطاهر هذا يساوي ما يناهز الخمسين ألف مرة راتب هذا الطبيب لنفس الفترة!
أي عدل يرومه المستغفلون في قادمين جدد هؤلاء قدوتهم؟ رابعاً: الأمر ببساطة، ستختفي الشخوص ولكن ستبقى الظلال شاخصة أبصارها على كل صغيرة وكبيرة، وها هو من تبرأ منه لسانه يقول بكل بجاحة أنهم سيسلمونها لعزرائيل. خامساً: إن من يود الغوص في الأعماق لرؤية ذلك الثمن الباهظ، عليه إعادة قراءة تاريخ الدولة الأموية والعباسية وما كان يحاك في القصور وخائنة الأنفس، وهل يعتقد برئ أن للعصبة تاريخاً أقل سواداً. غافلٌ من يظن أن الدماء التي أُهريقت، والأرزاق التي قُطعت، والنفوس التي عُذبت، والكرامات التي امتهنت، سيصفح ضحاياها صفحاً جميلاً ويقولون عفا الله عما سلف!
(4)
وطالما خضنا في هذا الأمر مع الخائضين، هاكم المنظور الشكلاني في مسرحية تجار الدين والدنيا. تأكيداً لما ذكرنا أعلاه لن يقول الأبالسة إن ما حدث هو نتيجة (انتفاضة سبتمبر) حتى وإن حاول أن يقلل من شأنها التبخيسيون والمخذلون، ولكن انصت لترهاتهم ستسمع بعد حين من يقول إن الذي ابتعثهم ليملأوا الأرض عدلاً قد أوحى إليهم بإخراج تلك المسرحية. أليست هذه لغة ناهزت ربع قرن حتى مللنا سماعها؟
إذن ما الجديد الذي يمكن أن يأتي به القادمون ولم يستطع أن يحققه الأولون؟ هل يعقل لمن تمرَّس على القتل وحياكة المؤامرات أن يبقِي ظهره مكشوفاً في انتظار قدره؟ هل يظن عاقل أن رؤوس الفتنة في العصبة بدءاً بعلي عثمان طه مروراً بنافع علي نافع وانتهاءً بعوض الجاز ومن لف لفهم، سيكتفون من الغنيمة بالجلوس في منازلهم واجترار الذكريات؟ بيد أنني أرى أن المسألة أكبر مما يظنون، فهي - يا سادتي - تحرير شهادة وفاة دولة المشروع الوهمي، وهاكم البراهين التي تلقف ما يأفكون.
(5)
في يوم 9/11/1965 وقف شاب اسمه شوقي محمد علي وتحدث معقباً في ندوة عامة بمعهد المعلمين العالي بمدينة أمدرمان، وكانت بعنوان (الإسلام والأخلاق) أو (المجتمع والبغاء) وتناول في مداخلته موضوع حديث الإفك. وقيل إنه تعرض فيه لإحدى زوجات الرسول الكريم. كان عمره آنذاك 19 عاماً ولم يقل إنه يتحدث بهوية حزب معين، وبالتالي كان يمكن الرد عليه أو حتى مقاضاته في ذاك الإطار بنص القانون. لكن من بين الحاضرين من كان يتربص بالحزب الشيوعي، ورأى في ما حدث فرصة للنيل منه، باعتبار أن عضويته كفاراً فجاراً وليسوا خصوماً سياسيين. كان علي عبد الله يعقوب في طليعة المتربصين،
وساندته في (موقعة المعهد) تلك السيدة سعاد الفاتح. ولو أنك - يا عزيزي القارئ - كنت أحد الذين شاهدوا يعقوب هذا يتحدث في برنامج تلفزيوني (أسماء في حياتنا) عن هذه القضية، لما تزعزعت قناعتك في أنه أحد الذين أحسنوا التجارة بالدين مثلما أحسنها برعاية (البنوك الإسلاربوية) في ذاك البرنامج قال يعقوب إن همه الأساسي انصبَّ في تجييش المشاعر الدينية ونسج الأحابيل التي تدين الحزب الشيوعي وتجرمه على فعل حتى وإن لم يرتكبه.
وبالفعل تحقق لهما ما عزما عليه دون اعتبار لمالآت عمل طائش كان بمثابة حجر الأساس في انقلابات عسكرية اكتوينا بنيرانها منذ الاستقلال وأورثتنا تلك الدورة الشريرة اللعينة. فضلاً عن أنها فتحت باب العنف في الجامعات الذي دشنه الدكتور عبد الرحيم علي بموقعة (مسرحية العجكو) ثمَّ أصبح العنف بعدئذ سنة يتعاطاها الإسلامويون كما يتعاطوا الماء والهواء. ولكن السؤال: لماذا نُقلِّب هذه المواجع ونسترجع هذا الشريط المخزي الآن؟
(6)
المذكوران سعاد الفاتح وعلي عبد الله يعقوب يعيشان بين ظهرانينا أحياء يرزقان. وطالما هما أحياء يقرآن فلا شك عندي أنهما طالعا ما قاله الدكتور غازي العتباني في تبرُئه من الدولة الدينية وتأكيده استحالة حكم السودان بها، ولعلهما قراءا أيضاً ما عضّده أحد المنشقين عنه، والذي قال إن أحد القيادات - الذي لم يسمه - عارض الهوية الإسلامية كتوجه للحزب بزعم (أن الدين أفيون الشعوب).
المذكوران طالما هم حيّان يتنفسان فلا شك عندي أنهما رأيا ما قاله الدكتور الطيب زين العابدين عن لفظهم الشريعة الإسلامية في تنظيمهم الجديد (الحركة الوطنية للتغيير) كما يلفظ المرء النواة. المذكوران طالما هما حيّان يجادلان فلا شك عندي أنهما شاهدا مبارك الكودة وهو يوقع على وثيقة الفجر الجديد التي تنادي بحرية المعتقد وتجهر بفصل الدين عن السياسة.
فلماذا لم يمتشق يعقوب سيفه وتطلق سعاد الفاتح صيحات الاستغاثة لنجدة الإسلام وتكفير (بني علمان) الجدد؟ بل قبل هذا - وبصورة أكثر شمولاً - يعلم المذكوران وبقية عصبتهما أن أحد الذين نهضت التجربة الإسلامية على كتفه، بل كان أحد السبعة العظام الذين رعوا الانقلاب تدبيراً وتنفيذاً، كان قد شيع التجربة بحديث موجع إلى مثواها الأخير. حينذاك لم ينطق أحد من العصبة معقباً على ما قاله يس عمر الإمام (أنا أخجل أن أحدث الناس عن الإسلام في المسجد الذي يجاورني، ولا أستطيع أن أقول لأحفادي انضموا للإخوان المسلمين) وعوضاً عن أن يشيعوها كما شيعها يس عمر الإمام، شيعوه هو إلى الدار الآخرة قبل شهور خلت وأقبل بعضهم على بعض يتباكون!
(7)
صدق ذو الجلال والإكرام في قوله (لا يحيق المكر السيء إلا بأهله...الآية) وطبقاً لهذا فإذا نظرت بعيني زرقاء اليمامة - يا قارئي العزيز - ستجد أن المكر السيء حاق بأهله فعلاً. فالتنظيم الذي تأسس منذ نحو أكثر من ستة عقود زمنية في طريقه للتلاشي، وهو الآن في حالة تدعو للرثاء، ويكفي أن بكري حسن صالح يشغل منصب نائب الأمين العام فيه. لا شك أنكم تعرفون المذكور،
فهو لم يقض عمره مصاحباً كتب سيد قطب وحسن البنا وابن تيمية مع بؤسها، بل يساورني ظن غير آثم أنه لم يقرأ في حياته سوى كتب أرسين لوبين ولم يشاهد سوى أفلام جيمس بوند. ونظراً لإيماننا بالحريات العامة فلن نطعن في سلوكه الذي يضعه ضمن سرب صاحب النكتة أعلاه، ولن نستكثر عليه تلك (المُضغة) التي لم تبارح فمه منذ ربع قرن، ولكن كيف يمكن للمرء أن يعيش ازدواجية كهذه (يُسبِّح بالنهار ويُضبِّح بالليل) كما يقول عامة أهل السودان. وهل تعلمون محصوله في هذه الحركة؟ سأعيدكم للوراء قليلاً، فأنتم تذكرون ما سُمي بـ (مذكرة العشرة) التي قسمت التنظيم إلى قصر ومنشية، تلك المذكرة في الأصل كانوا تسعة رهط يتآمرون، وعندما اكتمل كيدهم وأرادوا عرضها على الرئيس الضرورة كان بكري هذا حاجبه الأمين، فسدَّ عليهم المنافذ بمنكبيه، وقال لهم لن يحدث ذلك إلا إذا أضافوا اسمه، وهكذا صاروا عشرة، فتأمل! وما زال هناك من يرفع عقيرته ويقول لا للسلطة ولا للجاه!
(8)
أبعد هذا هل هناك من يجرؤ على أن يدس لنا هذا السم الزعاف في قارورة عسل ويقول إنه يرغب في أن يحكم باسم الإسلام السياسي؟ الحمد لله الذي أحيانا حتى نكون شهوداً على ما فعله طواغيت عصرنا هذا. كشفنا عن فسادهم وما فرطنا في الكتاب من شيء. بددوا ثروات السودان ما ظهر منها وما بطن. جغرافياً أصبحنا نعيش في بلد قضى ثلثه نحبه وأطرافه الأخرى تنتظر.
ديمغرافياً تشهد بلادنا هجرة جماعية لم تعرف لها مثيلاً حتى بات المرء يتوقع ألا يجدوا أحداً يحكمونه. اقتصادياً رزئنا بخزينة خاوية على عروشها، وديون بلغت نحو 46 مليار دولار، وبطالة تجاوزت 47% يداويها الشباب بتعاطي الحرام والمكروه عمداً. اجتماعياً تفشت القبلية والإثنية والجهوية بحروب متواصلة يأخذ بعضها برقاب بعض، واجتماعياً تقف (دار المايقوما لفاقدي السند) شاهداً على ما اقترفت أيديهم. واجتماعياً انتهكت كرامة أكثر من 50 ألف امرأة تحت مظلة قانون النظام العام سيء الصيت. سياسياً أصبحنا محسوبين على رئيس دولة مطلوب للمحكمة الجنائية. عقدياً صحونا على دين يجلس على صفيح ساخن، وصار الخيار إما أن نهرُب به أو يهرُب منَّا!
(9)
هل كانت تلك سذاجة منا أم كرم معهود فينا، أي أن نسلِّم رقابنا لإخوان الشيطان (كما وصفهم الرئيس المخلوع الذي بايعوه على المكره والمنشط) وهم يتأبطون (القانون البطال) كما قال ذات المخلوع عنه ويقصد قوانين الشريعة الشوهاء، فهل كان لزاماً علينا أن ندفع هذه الضريبة القاسية حتى نستبين الحق من الباطل؟ هل كان حتماً علينا أن نصبر على خزعبلات إسحق أحمد فضل الله،
وجهالات محمد وقيع الله، وترهات الطيب مصطفى، وعجرفة أمين حسن عمر وصفاقة نافع علي نافع؟ هل كان علينا أن نُمتحن في وطنيتنا وشرذمة من شذاذ الآفاق تلقي علينا دروساً في كيفية الولاء للوطن وحبه؟ هل ثمة عقوبة أكثر في عهد الانحطاط الصحفي من أن يتصدره محي الدين تيتاوي ومصطفى أبو العزائم وأحمد البلال الطيب وكمال حسن بخيت والنجيب قمر الدين وعبد المحمود الكرنكي وثامنهم الهندي عز الدين؟ هل حقاً كنا نحتاج لهذه الجرعة من الأسى حتى نستيقظ من سباتنا العميق؟ باسم الدين قُتلنا وباسم الدين عُذبنا وباسم الدين انتُهِكت أعراضنا، وقطعت أرزاقنا، واحتقرت كرامتنا!
(10)
نعم.. سوف نشيع الأنبياء الكذبة غداً، وسنقبر دولة الإسلام السياسي بعد غدٍ، ولكن قل لي بربك الذي خلقك فسواك فعدلك، من ذا الذي يعيد إلينا أحلامنا التي وُئدت، وطموحاتنا التي سُرقت، وآمالنا التي أُجهضت؟ من ذا الذي يُرجِّع إلينا ماضينا الذي دُمر وحاضرنا الذي تشوه،؟ من ذا الذي يعيد لنا ربع قرن اقتطعناه من جلودنا هماً وغماً وأسى؟ من ذا الذي يعيد إلينا ذكرياتنا الجميلة؟ من ذا الذي يعيد لنا خارطة وطن كان واعداً فوطئته سنابك خيول المغول وأحالته صعيداً جرزا؟
يا سادتي قوموا إلى صلاة الغضب يرحمكم الله!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

الخميس، 28 نوفمبر 2013

ودنت ساعة التفاف الساق بالساق

في البداية أرجو ألا تسأمون أو تضجرون أو حتى تيأسون من تعابير ظللنا نكررها في الآون الأخيرة ومن ضمنها العنوان أعلاه، أو عن إيمان العجائز حول حتمية سقوط نظام العصبة ذوي البأس، أو ما سبق وتنبأنا باحتمال حدوثه عن (ليلة السكاكين الطويلة) تلك التي أوردنا فيها حيثيات نكاد نراها رأي العين برغم المسافات الطوال التي تفصلنا عن وطن بات يقف حائراً بين الألم والأمل. أما وإن كنت اليوم سأكتب استناداً على معلومات جديدة توفرت لنا فيما سبق ذكره، أرجو ألا يسألني سائل عن عذاب واقع على عصبة فتحت الباب على مصراعيه لكل وسائل التغيير والبادي أظلم كما تعلمون. فهذه العصبة التي تحكمت في حاضرنا ومصائرنا، قبرت ما سُمى بالتسامح السياسي السوداني في أسفل سافلين، شيعت المُثل والقيم والأخلاق السودانية إلى مثواها الأخير، حرمت حلالاً ساقه الله رزقاً على عباده، وحللت سفك الدم الحرام والتنكيل بالمعارضين، عبثت بعقيدة من جُبل على دين الإسلام بالفطرة فوضعتهم بين خيارين، إما أن يفروا بدينهم أو يفروا من دينهم. وفي كلٍ، لو أن أبي الطيب المتنبي عاش بين ظهرانينا، لكان المواطن السوداني المغلوب على أمره هو من عناه بقوله (كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً)!

دعونا من المعلومات وأسرارها وليُحكِّم كل منا عقله ويفتح عينيه على هذا الواقع البئيس. أنظروا وقولوا لنا ماذا ترون في بلد وصلت حد الإفلاس؟ ما الذي ستقولونه عن فساد صَمَم صانعوه على

استنزاف موارد هذا البلد حتى آخر قطرة؟ ما الذي ستقولونه عن عصبة استبدت لدرجة بات فيها الرئيس الضرورة يمن على الناس بتوافه الطعام عند أصحابه (الهوت دوق) ووقواقة كمهدي إبراهيم يدمغنا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت عن رفاهية حلت بنا في الأيام الغابرة، و(طفل معجزة) كمصطفى عثمان يمارس فينا هوايته في الجهل، فينعتنا بالشحادة كأن ليس في وجوهنا مُزْعة كرامة وهي آخر ما تبقى لنا من موروث نفتخر به في هذه الدنيا الفانية، وإِمَّعَة كعلي محمود عبد الرسول وزير المالية الذي اختلطت عليه حسابات الحقل والبيدر، إذ رأى في ما يرى الواهم أن الذين امتطوا الدواب الفارهات، وسكنوا القصور العاليات، ولم يروا في القرآن سوى آية النكاح، هم السودانيون الذين يحكمون. في حين غضَّ البصر عن الذين يتضورون جوعاً، ويشهقون معاناةً، ويزفرون أسىً، في بلاد أصابت فيها عصبته البشر فأفقروها ومسوا فيها الحجر فقسموها!

دعوكم من قولهم ومن قولنا أيضاً، وكروا البصر مرتين فماذا ترون في الأفق؟ بعد ربع قرن يقف الناس صفاً صفاً بحثاً عن الخبز والصبر. بعد ربع قرن يصل ثمن كيلو الطماطم نحو 25 جنيهاً وهي طعام الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم. بعد ربع قرن، ليس سعرها فحسب بل ذات الطماطم تُستورد من أثيوبيا، ويتبعها الثوم من إيران ويزيد عليهما السكر من الجزائر وما زال هناك من يردد بأن البلد الذي يتسول طعامه سيكون سلة غذاء العالم؟ هل يُصدق عاقل أن الحصول على اللحم صار حلماً متمنعاً في بلدٍ الثروة الحيوانية فيه تقارب عدد النجم والحصى والتراب. أنظروا في الأفق هل ترون ديوناً وصلت لأكثر من 43 مليار دولار وكانت نحو ربع ذلك يوم أن سطوا على السلطة. هل ترون أكثر من 70 مليار دولار من مدخولات البترول وقد ذابت كما يذوب الآيسكريم في أفواه ابناء العصبة. أنظروا فهل ترون شباباً عاطلاً، بلغ بحديث النسب نحو 47% ومنهم من بات يلوذ

بالمخدرات والخمور للهروب من هذا الواقع الأليم؟ أمعنوا النظر فهل ترون بنوكاً على شفا حفرة من الانهيار؟ لعلكم أدركتم لماذا صار الإنسان السوداني رخيصاً إلى درجة يعاد فيها تصديره إلى بلاده بعد هروبه من جحيمها؟ أنظروا مثنىً وثلاثاً ورباعاً، فلن تروا سوى بلدٍ وصل حد الافلاس، اقتصادياً وسياسياً وفكرياً وثقافياً وسدنتها ما زالوا يكابرون بدرجةٍ تضاءل فيها الأبالسة وتقزَّم الشياطين!

دعوكم من قولهم وقولنا، فسوف أذر على سمعكم قولاً ثقيلاً نطق به الآخرون. فكلنا سمع بقائد عبقري اسمه مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق وصانع نهضتها الحديثة. ففي نوفمبر من العام الماضي عنَّ للعصبة الحاكمة أن تدعوه لمؤتمرٍ من مؤتمراتهم التي لا تُحصى ولا تُعد. احتفوا به وفي نفوسهم شيء من حتى، وتحدثوا إليه كمبعوث رسالي وفي أصواتهم غُنَّة فقالوا: كيف يمكن أن ننهض ونصبح مثل ماليزيا؟ لم يقل الرجل لهم حياءً إنهم في ماليزيا تعايشوا بمللهم ونحلهم في بلد متعدد القوميات والديانات واللغات. لم يقل لهم إنهم لم يدّعوا زوراً أن الله تبارك وتعالى ابتعثهم لإخراج الماليزيين من الظلمات إلى النور. لم يقل لهم إنهم جعلوا بينهم وبين الفساد سداً وحالت الديمقراطية بينهم والاستبداد. صمت الرجل وقال بإيجاز مقصود: إذا أردتم أن تصبحوا مثل ماليزيا فعليكم بإرجاع مبلغ الـ 12 مليار دولار المُودعة في بنوكنا، فماليزيا ليست في حاجة لها وبلادكم أحوج.. ثم استقل طائرته وعاد أدراجه!

تلك ساق - يا رعاك الله – ولكن أين الساق الأخرى التي سيساقون فيها إلى حتفهم. لا شك أنكم كنتم تعلمون مثلي أن العُصبة يتنازعها فريقان طيلة سنوات ما بعد انقسامها أو مفاصلتها في العام 1999 الأولى عُصبة علي عثمان محمد طه، والثانية عصبة نافع علي نافع. وهذان الفريقان ظلا يتصارعان في الكواليس مداً وجزراً، بمعنى أن فريقاً يستقوى على الآخر في مرحلة ما وفقاً للظروف

المحيطة حتى يظن أن الدولة (السايبة) قد دانت إليه. لكن فجأة تتغير المعادلات، فيظفر الطرف المستضعف برداء الطرف القوي فيوحي لناظره أن الدولة المهترئة جاءته تجرجر خيبتها، وهكذا دواليك كما يقول اللغويون. أما الواقعيون فيقولون أن الفريقين انشطرا الآن لنحو عشر فرقة ليس من بينهم فرقة ناجية. فدولة العصبة الآن هي محض جزر لا رابط بينها غير الشحناء والبغضاء والمكائد التي يحيكونها لبعضهم البعض، بدرجة فاقت ما كان دائراً في أروقة قصور خلفاء الدولة الأموية والعباسية معاً!

في خضم تلك المعمعة التي تسمع لها تغيظاً وزفيراً هذه الأيام، انتقل الرئيس الكذوب من حالة الديكتاتورية الجماعية إلى ديكتاتورية الفرد، وبات يتحكم في مسار الدولة وفق أهواءه ويطارده هاجس التآمر الذي شارك في نظم خيوطه من قبل، ويقلقه نبأ المحكمة الجنائية وإن تطاول الزمن. ولعمري فقد صدق (خاله الرئاسي) المدعو الطيب مصطفى في حديثه لوكالة الأنباء الفرنسية قبل بضع أيام (21/11/2013) وأفصح فيه عن خائنة الأعين وما تخفي الصدور فقال: (يريد الاستمرار في السلطة ليحمي نفسه من المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرات اعتقال بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور) وزاد أيضاً بما كان يستحي من ذكره من قبل (لا أحد من الحزب الحاكم يجرؤ على الوقوف في وجه البشير، وأن قيادات المؤتمر الوطني يتبعونه مثل قطيع من البهائم التي تتبع الراعي) ولعلم الذين لم تحفظ ذاكرتهم ما كتبنا من قبل وهم غير ملومين، نقول إن المنعوت بديكتاتورية الفرد هذا كان قد طرح نفسه فيما سبق طرفاً محايداً بين عصبة علي عثمان وعصبة نافع علي نافع بدعوى أنه متفق عليه.. ولنتأمل الآتي الذي يزيح بعض الغيوم!

كخلفية ضرورية لما نود أن نقول، رحل قبل أيام قليلة خلت عبد الوهاب محمد عثمان، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وهو بين يديه الآن. والمذكور عرف بين عصبته بالدقة الشديدة والنزاهة ولكنه لم يشذ في ما ظلوا فيه متفقين من صفات أخر. كانت وزارة الصناعة هي آخر منصب شغله عبد الوهاب قبل رحيله، وهو ختام لرحلة طويلة بدأت منذ أن تسلمت عصبته السلطة في يونيو 1989 وللذين لم يقرأوا كتابنا الأخير (الخندق/ دولة الفساد والاستبداد) الذي صدر العام الماضي، نقول كان عبد الوهاب ضمن منظومة (السواقين) وهي خلية من الأجهزة الخاصة، تضم مدنيين موصولين بالعسكريين ليكونوا وسطاء بينهم والقيادة التنظيمية للانقلاب. وإلى جانبه كنا قد ذكرنا أيضاً علي كرتي وأحمد علي الفشاشوية والزبير محمد الحسن ومحمد حسن المقلي (شقيق عبد الله حسن أحمد) وعلي الروَّي (والأخيران انتقلا للدار الآخرة) وآخرون. (أنظر الخندق/ الفصل الثاني بعنوان النوم مع الشيطان ص 114) ومنذاك الزمن تمرحل عبد الوهاب في علاقته حتى أصبح مقرباً من المشير البشير أو الحاكم بأمره الآن. ويستدل العالمون ببواطن الأمور على الإيثار في مسألة استقالته من منصبه بعد فضيحة مصنع سكر النيل الأبيض، والذي كان مخططاً أن يشهده وزراء مجموعة بنك التنمية الأفريقي. فقد كان حامل الاستقالة والمحمولة إليه يعلمان أنها محض مسرحية نُزع عنها الستار!

بيد أنه بين المنصبين كان الراحل عبد الوهاب قد تقلد منصب مدير عام شركة دان فوديو وهي بؤرة ضمن بؤر الشركات الأمنية العديدة. بجانب أنها عُرفت بكونها معقلاً من المعاقل العتيدة في الفساد، ونستدل بقصة واحدة لأولي الألباب، وذلك لارتباطها بمسألة تقلد الراحل منصب مديرها العام. الرواية تقول إن شخصاً اسمه إبراهيم موسى ليس كسميه عليه السلام وإنما على العكس تماماً، فهو يعد من

جلاوزة العصبة الفاسدين والمفسدين، وهو أيضاً ابن عم علي كرتي الذي يشغل منصب وزير الخارجية الآن في دولة الكُهْنَة. واجمالاً فهو أخطر ما أنتجته الحركة الإسلاموية في الإجرام، وأفسدها في المال، وأولغها في الدم. سرح وصحبه في شركة دان فوديو بلا رقيب أو عتيد. أثناء ذلك كانت فضيحة رجل الأعمال السعودي عادل موترجي سنام فساده هو ورهطه. فقد استولوا من المذكور على أكثر من عشرة ملايين دولار بقانون (وضع اليد) الذي برعت فيه العصبة تشريعاً وتنصيصاً وفهلوةً. وكان الموترجي قد هوى لدولة الصحابة يرجو لملايينه استثماراً يضاعفها. والذي حدث بعدئذٍ أن عَهَد كِبار العصبة إلى أحدهم من الاقتصاديين بالتحقيق في ذلك الملف. لكنه إثر تلقيه تهديداً ووعيداً طلب الحاكم بأمره من عبد الوهاب عثمان أن يتولى الملف بالعناية المركزة، ومن ثمَّ إدارة الشركة كلها.. وقد امتثل!

طبقاً لهذه الخلفية التاريخية، كان الحاكم بأمره قد عهد أيضاً إلى عبد الوهاب بملف آخر قبل نحو ثلاثة أشهر من رحيله. والملف المحال يدخل ضمن المقاصات التي تشهدها جُزر العصبة هذه الأيام، فثمة جزيرة تضجرت من فساد أسامة عبد الله المحظِي بحصانة لا تخفى على الناظرين (كنا أيضاً قد نشرنا في الخندق ص 350 قرار تعيينه رقم 217 لسنة 2005 وفيه استثناء من المحاسبة من قبل أي جهة حكومية) لدرجة كاد القرار أن يلحقها بعدم محاسبته من خالقه جل وعلا. على كلٍ بمنطق (إياك أعني فاسمعي يا جارة) تمَّ الطعن في ذمة عبد العاطي هاشم الطيب المسئول المالي والإداري في وحدة السدود، والأهم أنه الساعد الأيمن لأسامة بن عبد الله (كان صديقنا الزميل عبد الرحمن الأمين قد نشر نذراً من فساده/الراكوبة 3/4/2013) بعد فترة وجيزة أعاد عبد الوهاب عثمان ذات الملف للرئيس الحاكم بأمره وقال له إنه لا يحتاج لتدقيق وإنما يحتاج للنيابة العامة مباشرة. تبعاً

لذلك أودع عبد العاطي السجن فارتبكت حسابات أسامه بن عبد الله ورهطه في المنظومة، واللبيب بالاشارة يفهم. وواقع الأمر ظل أسامة بن عبد الله طليقاً ولم يحل بينه والسجن سوى تلك العلاقة الغامضة مع الرئيس الحاكم بأمره، والتي لم يفك البعض من طلاسمها سوى أن أسامة هو عرَّاب زيجة البشير الثانية (وداد بابكر) وبموجبها أصبحا صهرين في دار واحدة!

لكن الذي صار كانت للأقدار فيه يد لا تُرى بالطبع إلا عند حدوثه. فبعد فترة قصيرة من تسلمه ملف أسامة بن عبد الله وفي معيته عبد العاطي هاشم الطيب، والذي رمى الأخير هذا في غياهب الجب لفترة قصيرة، ظهرت على عبد الوهاب أعراض ألم في الحبال الصوتية وتغير فيها صوته. سافر على إثرها إلى ألمانيا وعاد منها مستشفياً، ثم فجأة ظهرت عليه أعراض مرض في القلب وشخصت حالته بماء في الرئتين، فغادر على إثرها أيضاً إلى الأردن إذ صعدت روحه إلى بارئها بعد أربعة أيام. المفارقة التي تشبه العصبة وأفعالها وقد تدهش الذين لا يعلمون، أن الذي غادر مع الراحل عبد الوهاب عثمان وعاد مع جثته من الأردن كان هو أسامة بن عبد الله! لهذا فأعلم يا هداك الله إن رأيت دموع العصبة تنهمر على فقيد بمثلما شاهد البعض الحاكم بأمره فأعلم أن وراء الدموع مكائد ودسائس ومؤامرات!

كفى بالعصبة الموت واعظاً، وقد دنت ساعة التفاف الساق بالساق!

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

السبت، 9 نوفمبر 2013

الإنتفاضة الشعبية الثالثة.. هل من سبيل!؟

يظن البعض وهم آثمون، أن الانتفاضة الشعبية الثالثة التي اشتعل فتيلها، وازداد أوارها، وكادت أن تطرح ثمارها في سبتمبر الماضي، قد توقف قطارها ولا سبيل من تواصل مسيرتها نحو غاياتها النبيلة. ويذهب بعض آخر إلى ما هو أسوأ من التشاؤم، فيشككون في قدرة الشعب السوداني على إزاحة النظام الديكتاتوري البغيض من سدة الحكم ورمي عُصبته في مزبلة التاريخ. ويوغل آخرون في التطيُّر فتذهب بهم الظنون مذاهب شتى.. أدناها أن السودانيين رضخوا للأمر الواقع، وسنامها التشكيك في وطنيتهم برمتها. ثمَّ يحقنون هذه وتلك بفيروسات التيئيس والتخذيل والتبغيض، درءاً لأي طموحات وزهقاً لأي أحلام. ثمَّ يصفعونك بأحاديث (المؤامرة) حتى تكاد وطنيتك أن تصاب بالتزعزع. وإذا عجزوا عن هذا وذاك قالوا لك إن البلاد لا تحتمل صراعاً يذهب بريحها. أما المتشائلون فيدلقون على وجهك ما لن تستطيع معه صبراً، فيقولون لك نعم الانتفاضة قادمة.. ولكن كيف ومتى وأين؟ ويطرحون أسئلة أخرى تتناسل كالأرانب، في حين يفترض أن يكونوا هم مجاوبوها. بالطبع كل ذلك ليس بجديد عليك أيها القارئ الكريم، وأحسبك تطالع بين الفينة والأخرى أحكاماً قطعية على هذا المنوال، منها ما هو في حكم سقط المتاع، ومنها ما يتمسك به قائلوه ويكابرون حوله كأنه قولاً منزلاً لا يأتيه الباطل من بين شدقي ناثره. ولأن هذا طريق لا يحتمل التأويل فأظنكم تتساءلون.. وأين يقف الكاتب؟ أقول ابتداءً يكفيني فخراً إنني ما زلت (أؤمن بالشعب حبيبي وأبي) بل أزيد ولا أزايد على شاعرنا الفطحل محمد المكي إبراهيم وأقول إنه أمي أيضاً!

لكن دعوني أوغل في تفاؤلي وإقرأوا معي قولاً وجيزاً ورأياً سديداً ينزل الطـمأنينة في قلوب سامعيه: «قد علمتني تجربتي أن قوى الصراع الاجتماعي المتفاعلة تكون دائماً مقبورة تحت السطح وتُظهر نفسها بطرق مختلفة قبل مدة طويلة من انفجارها، وأن هذه القوى تظهر أول ما تظهر في قوة الفكرة قبل أن تتبلور في أشكال تنظيمية تتحدى السلطة في وضح النهار» هذه المقولة الرائعة خطها م. س. هاندار، وهو صحافي أمريكي جاب عوالم كثيرة وعايش أحداثاً ضخام في شرق وغرب أوروبا، شاهد شعوبها تصنع تاريخاً تليداً، وهو ما أصبح موضع حكمه أعلاه. وقد جاء ذكر تلك العبارة في مقدمة كتاب (السيرة الذاتية) لمالكوم إكس كما رواها كاتب (الجذور) إليكس هيلي، وقام بترجمته صديقنا البروفسير أحمد عبد الرحمن الاستاذ السابق بجامعة الخرطوم والحالي بجامعة الكويت، وهو سفر لا غنى عنه لمن أراد أن يمتع نفسه بالدهشة، ويغرقها في بحور من التساؤلات الفلسفية العميقة. أما أنا فقد فعلت واستمتع بقراءته هذه الأيام. وعندما وقعت عيناى على تلك العبارة البليغة كدت أن أصيح (وجدتها.. وجدتها) وأركض عارياً كما فعل أرخميدس من قبل. ولكن طالما أن ذلك لم يحدث، فأنا أدعو المتشائمين ليضعوها نصب أعينهم، ويمكن للمتشائلين أن يتقلدوها تميمة في أعناقهم أيضاً!

إن التعليق على ترهات المتشائمين وتبليس المتشائلين، يدعونا يا سادتي إلى أن نسبح أولاً في المياه الهادئة كما يقول الفرنجة في أمثالهم. نحن نعلم وأنتم تعلمون، أن الشعوب ليست حالة استاتيكية ساكنة كما يقول الفيزيائيون. بل هي باختصار قوى ديناميكية تتفاعل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مع واقعها، لتصنع حيواتها بصور مختلفة ووفق نُظم وأُطر داخل منظومة معينة. وبناءً على ذلك لا ينبغي أن يصدر البعض أحكاماً نهائية في أمرٍ يتعلق بالشعوب وحراكها، اللهم إلا إذا كانوا من ذوي الأغرض الدفينة وراء توصيفاتهم. وطبقاً لهذا فإن المتأمل أو المتابع لحركات وسكنات الواقع السوداني، يمكن أن يقول بمنتهى البساطة إن الحالة الصامتة التي تكتنف الساحة السودانية الآن، هي ذات الحالة التي كانت تغمرها قبيل اندلاع انتفاضة سبتمبر الماضي، ويومذاك لم تكن الانتفاضة في رحم الغيب فحسب، وإنما كانت نسياً منسياً في خُلد المتشائمين، وإن كانت جمرة تتقد تحت الرماد في أعراف المتفائلين. وبذا لكأنما تاريخ الأمس يعيد نفسه الآن. وذلك ما يعني أن إعادة انتاج التصورات والتهيؤات من قبل المتشائمين أو حتى المتشائلين لن تحول دون أن تواصل الانتفاضة مسيرتها نحو غاياتها المنطقية!

من أجل هذا وذاك يمكن القول إن انتفاضة سبتمبر كانت عنصراً مفاجئاً في أجندتهما، الأمر الذي حدا بهم أن يلوذوا بتفسيرات الطغمة الحاكمة مع بؤسها. والتي تقول تارة إنها كانت فعلاً عفوياً جاء على حين غرة، وتارة أخرى تقول إنها عملاً احتجاجياً جراء رفع الدعم عن المحروقات. بيد أن القراءة الواقعية كانت تشير لما حدث باعتباره انتفاضة نتجت عن تراكمات ظلت تمور تحت السطح، وعندما اكتملت ظروفها الموضوعية، تحولت بعدئذٍ إلى فعل ثائر طالب برحيل النظام. لكن يمكن القول إن الهروب للأمام بتفسيرات مضللة من قبل النظام مرده إلى ثقافة الديكتاتورية التي تحاول سلب السودانيين عشقهم للحرية والديمقراطية، وأيضاً لتجنُّب القول بإنها كانت انتفاضة كرامة. ونستدل على الافتراض الأخير هذا بالتأكيد على أنها اندلعت في أعقاب حديث المشير البشير عن (الهوت دوق والهمبرجر) ووزير ماليته الهمام عن (البيتزا والمساكن الخاوية على عروشها) وكلاهما كما تعلمون نهلا من قاموس غني بالبذاءات والإساءات والانحطاط، التي شنفوا بها آذان السودانيين لسنين عدداً!

نخلص إلى أنه حتى لا يكون تفاؤلنا باستمرارية انتفاضة سبتمبر الثالثة مثل تشاؤم المغرضين بانقطاع وصلها، دعونا نورد من الأدلة والبراهين ما يُعضَّد قولنا، ونطرح من العبر والدروس ما يقوي عزمنا بجعل استمراريتها أمراً ممكناً.

أولاً: على الرغم من نفينا أنها انتفاضة جوع، وهو توصيف هدفت به العصبة تقزيم طموحات الشعب السوداني في ملء وعاء بطنه كما ذكرنا، لكن دعونا نفترض أنها كانت كذلك لكي نوضح المأزق الذي تعيشه العصبة الآن. فالمعروف أن وقائع انتفاضة سبتمبر حينما بدأت كان قرار رفع الدعم عن المحروقات وزيادة أسعار السلع الضرورية حبراً على ورق. أما وقد أصبح الآن واقعاً عايش الناس بموجبه ضنكاً في العيش أحال حياتهم إلى جحيم، فإن ذلك من شأنه تعزيز فرص استمرارية الانتفاضة بمنطق العصبة السالف الذكر. وكأني أسمع شكوى الناس مرجلاً يئز الآذان أزاً!

ثانياً: إن الأيادي المضرجة بالدماء لم تدق على باب الحرية الحمراء بعد أو كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي. ذلك لأننا قلنا وسنكرر القول – إلى أن يسمع من به صمم – إن الدماء التي أريقت من أجساد المتظاهرين الشباب، فضلاً عن دماء سبقتها طوال ربع قرن ستترتب عليها مساءلات جنائية وسياسية واجتماعية وأخلاقية ونفسانية لم تفتح صحائفها بعد. ورغم وضوح الرسالة فما زالت العصبة سادرة في جهلها ولم تع التغيير الذي طرأ على الذهنية السودانية بفعل مسلكها الذي جعل (التسامح السياسي السوداني) مجرد ريشة في مهب الريح!

ثالثاً: إن الانتفاضة كانت نتاج تراكمات لقضايا كثيرة على رأسها الاقتصاد، وذلك بعد أن عاثت فيه العصبة فساداً، وأهدرت موارد البلاد ووضعتها على شفا حفرة من الإفلاس. ولعل الناظر للساحة الآن يدرك أن هذه القضايا ازدادت تعقيداً، ولا سبيل لحلها أو حتى بناء آمال في حلها. الأمر الذي حد بهم إلى الركض يميناً ويساراً بلا جدوى. ومن ضمن سعيهم لجأوا إلى دول عربية شقيقة كانت مغيثاً للسودانيين في كربهم وأزماتهم، ولكنها على العكس تماماً تمنَّعت بإذلال أراق ماء وجوهنا نحن شعب الله المحتار، الذين لا نملك رصيداً في هذه الدنيا سوى كرامتنا وعزتنا وكبرياءنا وهم يعلمون!

رابعاً: مما لا جدال فيه إن الانتفاضة خلقت واقعاً آخراً في صُعد العصبة الحاكمة، منها بروز تكتلات أسفرت عن نفسها حتى الآن في مجموعتين، أعلنتا انسلاخهما في انقسام جديد. وبالرغم من أن أسبابهما لا تعني المعارضين الحقيقيين للنظام في كبير شيء، إلا أنه لا يمكن التقليل من تأثيرهما على صعيد العصبة نفسها. واستطيع أن أؤكد أن ثمة انقسامات أخرى قادمة، وهي التي ستأتي حاملة في احشائها ما تنبأنا به فيما أسميناه في مقال سابق بـ (ليلة السكاكين الطويلة) وهو اليوم الذي ستزوغ فيها الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر!

خامساً: : ومما لا جدال فيه أيضاً أن الانتفاضة كسرت عنجهية وصلف واستعلاء النظام، وتذكرون حينما اتسع محيطها واصبحت تنذر بأفول شمسه، توارت العصبة كما تتوارى الجرذان في جحورها. ومن المفارقات أن الوجوه التي طالما انتفخت أوداجها بالتهليل والتكبير تركت المشروع الحضاري في العراء ولم يجد من يستر عورته سوى المؤلفة قلوبهم! بل حتى الرئيس الراقص اختفى من الصورة ولم يستطع ممارسة هواية الرقص على أشلاء ضحاياه إلا بعد ما ناهز الثلاثة أسابيع!

سادساً: اضطرب خطاب العصبة وما زال في الاعتراف بالقمع المفرط الذي مارسوه حيال المتظاهرين، على سبيل المثال في المقابلة التي أجرتها قناة الجزيرة مع علي عثمان طه نائب الرئيس يوم 6/11/2013، وفيها أدلى باعترافات في ذلك الشأن من الممكن جداً أن تقوده إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. وفي واقع الأمر أن العنف المفرط والتخبط في عدد الضحايا وطرق قتلهم هو خطاب تلجلجت فيه العصبة كلها. ففي الوقت الذي أكدت فيها العديد من منظمات المجتمع المدني السودانية والمنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان الدولية وعلى رأسها منظمة العفو الدولية أن عدد الضحايا تجاوز الـ 200 شهيداً، يقول طه وصحبه أنهم 84 وقد سبق ذلك طوافهم على أرقام عدة منها 70 قتيلاً وفي بداية الانتفاضة قالوا إنهم 34 قتيلاً، ومارس عبد الرحمن الخضر والي الخرطوم الاستهانة بالأرواح في اسطع معانيه، وذلك في قوله إنهم يتراوحون ما بين 60 إلى 70 قتيلاً. لكأنهم (حزمة جرجير يعد كي يُباع) كما قال الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم. وفي واقع الأمر فإن العصبة تعتبر معارضيها إن كانوا أحياء أنهم مجرد عملاء ومخربين ومندسين وإن كانوا أمواتاً فلا ثواكل لهم حتى يستحقوا الإحصاء!

سابعاً: لم تكن الانتفاضة درساً للعصبة وحدها فقد كانت كذلك لمعارضيها أيضاً. نسبة لأنها كانت انتفاضة شبابية خلقاً وابداعاً وتنفيذاً فقد اسقطت وهم البديل الذي سيخرج من رحمها. في تقديري أن الذين ينظرون لتقاعس السيدين بعين الريبة والشك يهدرون وقتاً ثميناً ويضيعون جهداً مقدراً، فمنذ متى كان السيدان في طليعة انتفاضة شعبية؟ فما اعتبره البعض تخاذلاً ينسجم تماماً مع طبيعتهما الطائفية ومع طبيعة شخصيتهما. ومع ذلك فالذين يعولون على مواقف متقدمة منهما كأنهم يدعون هذا الشعب الصابر إلى إعادة انتاج أزمته. يا سادتي دعوا السادة في نومهم يغطون!

صفوة القول، جفت الأقلام وارتفعت الحناجر، لقد خلخلخت الانتفاضة أوصال الدولة الظالمة، واصبحت فرض عين على كل من امتلك حساً إنسانياً ضد نظام داس على الكرامة السودانية وسلب السودانيين حريتهم وديمقراطيتهم وسامهم سوء العذاب. وستظل هكذا فعلاً مستمراً طالما أن الظروف التي أوجدتها ما تزال قائمة، ولو كره تجار الدنيا والدين ومن لف لفهم من المنافقين!

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

السبت، 26 أكتوبر 2013

إني أرى تحت الرماد وميض نار!

من المؤكد أن القارئ الكريم كثيراً ما طالع هذا العنوان المُقلق والمُرعب والمُخيف، في الكتابات التي تناولت الشأن السياسي السوداني، وتحديداً في السنوات العُجاف التي استأسدت فيها العُصبة ذوي البأس على أهل السودان واستأثرت بالجاه والمال والسلطة. وأستطيع أن أقول – على المستوى الشخصي على الأقل – إنني وعلى سعة اطّلاعي، لم أقرأ هذا العنوان قبل العام 1989 يعلو أي شأن من شئوننا السياسة أو العامة. أي منذ أن قاله نصر بن سيّار الكناني آخر حُكّام خراسان - بعد موجة مظاهرات واضطرابات اجتاحت ولايته - في رسالة إلى مروان بن محمد آخر ولاة بني أمية وضمّنها هذه القصيدة بشطرها المذكور. وفيها حذَّره بخطورة الأوضاع وعواقبها الوخيمة، لكنه لم يستبن النصح فكان لا مناص من الكارثة. وعليه كانت هذه القصيدة بمثابة الإشارة الأولى في انهيار الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. أما في زماننا الحالي - أي زمان الأمويين الجدد - الذين سامونا سوء العذاب، فقد عَمَد كثير من الكُتَّاب والصحافيين إلى تصدير مقالاتهم بهذا العنوان، منهم من حاول إسداء النصح للفئة المُستبدة والمُتجبرة، وتذكيرهم بالمصير الذي حاق بسابقيهم من الطغاة في التاريخ الإنساني. ومنهم من أورده خوفاً ورهبةً وخشيةً على البلاد والعباد من سيناريو مأساوي غرقت في لججه أمم وشعوب. ولكن بالرغم من أن كل هذه الشواهد ماثلة أمام أعينهم، إلا

أن العصبة ذوي البأس المعنية بالرسالة حاكوا الأمويين القدامى، إذ جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واستكبروا استكبارا!

صحيح أن كُتَّاباً كثيرون استخدموا العنوان أعلاه، ولكن حتى لا تصيبكم الكلالة والملالة والأذى، فأنا أصدقكم القول إن الأمر لمختلف جداً هذه المرة، أي ليست كسابقاتها التي لم يُوبه لها أو يُعمل بها، فنحن لا نورده هنا من باب التكرار أو الانبهار، ولا من زاوية الترهيب أو الترعيب. ولكنه محصلة لقراءة متأنية بشواهد ونتائج تأملناها بعد طول استقراء في واقع أصبح كتاباً مفتوحاً بسيناريوهات يعجز عن حصرها أي راصد. حيث كان من الطبيعي أن نصل لهذا الوضع الكارثي والذي لم تكتف فيه العصبة الحاكمة بالفشل، بل استعصمت بـ (عنف البادية) على حد تعبير من أهدانا وعياً لم نحسن صُنعه. والواقع أنها لم تستخدم ذلك بين غمضة عين وانتباهها، فذلك نهج تمطى على مدى ربع قرن وناء بكلكله على صدورنا ونحن له صاغرون. يقيني أن البلد الصابر أهله لم يتأملوا بعد وقائع ما حدث في انتفاضة 23 سبتمبر الأخيرة ولعلهم فاعلون. والذي نفس الفقير إلى ربه بيده، أن هذه المقدمات التي رشحت بغير أنه سيكون لها مترتبات سياسية واجتماعية ودينية ونفسانية، فقد أضرمت ناراً فيما ظلَّ أهل السودان يعتزون به في إباء وشمم وكبرياء!

في يوم 27/8/2013 زار المشير البشير السيد الصادق المهدي في منزله بالملازمين بمدينة أمدرمان، وعلى إثر انتهاء اللقاء هوت للأخير القنوات الفضائية بالذي يهواه. وبالرغم من أن الصور نفسها جبَّت قول كل خطيب، إلا أنه عبَّر عن سعادته البالغة بنشوة لا تباريها سوى نشوة صلاح الدين الأيوبي حين حرَّر مدينة القدس بعد معركة حطين، وقال: "هذه ظاهرة لا تكون إلا في السودان لما فيه من تسامح سياسي شائع بين السودانيين". ولكن من نعم الله علينا أن الأحداث في ظل دولة

العصبة يأخذ بعضها برقاب بعض، إذ سرعان ما ينكشف أمرها ويُذاع سرها. فبعد أقل من شهر كان التسامح السياسي السوداني يقف على أسنة الرماح، وتحول بقدرة قادر إلى رصاص وهراوات وغاز مسيل للدموع ومخلوط بدماء تقطع نياط القلوب. وفي التقدير لم يكن ذاك اختباراً لمنهج التسامح السياسي المزعوم، بقدر ما هو تعرية لأوهام حاول الإمام مداراة سوءته بها، أما العصبة نفسها فلم تكن في حاجة لكشف عوراتها، فتلك خطى سارت على دربها منذ أن اغتصبت السلطة بدباباتها المجنزرة بالكتاب والسنة!

كثيرٌ ما ذكرت في كتاباتي وقلت إن التسامح السياسي السوداني المزعوم ما هو إلا محض فرية روجت لها النخبة لتخفي بها نقص القادرين على التمام، هو في حقيقته كعبتهم التي يطوفون حولها ويعلقون على أستارها أخطائهم وخطاياهم، هو ضرب من ضروب الحواة ليخفوا به عجزهم وفشلهم، هو نوع من أنواع الأبلسة السياسية التي دأبت عليها حتى تستطيع أن تواصل زحفها المقدس في التشبث بالسلطة ولكي تصرف الأنظار عن المساءلة والحساب والعقاب، هو نهج مارسته ثعالب العصبة أيضاً فيما سُمى بديمقراطية رأس الذئب الطائر، بحيث تستحوز على السلطة التنفيذية لإفطارها، والسلطة التشريعية لغدائها، والسلطة القضائية لعشائها. ومع ذلك يطيب لها التحدث عن التسامح السياسي السوداني بلسان عربي مبين!

بيد أن خلافنا حول المفهوم ليس لأن نقيضه يجري على الأرض، ولكن لأنه أساساً لا وجود له في عالم السياسة حتى لو كانت تدور وقائعها في مجتمع، تدثر بالطهر والعفاف وتزمل بالشفافية والديمقراطية. ذلك لأن السياسة منهج يستند على حقوق المواطنة وواجباتها في الدولة المدنية الديمقراطية. وتعلمون أن البشرية عرفت عوضاً عن ذلك ما سُمي بالتسامح الديني، وهو الذي انبثق

من ركام حروب جرى فيها الدم أنهاراً، مثلما حدث في أوروبا على سبيل المثال وهو الذي كفل لدولها فيما بعد الاستقرار والتقدم والازدهار الذي تنعم به الآن. ومن المفارقات التي تجسد زيف ونفاق العصبة الحاكمة، أنه في الوقت الذي كان ينبغي عليها الاهتداء بهذا الإرث الإنساني عملت على العكس تماماً، فعلاوة على التسامح السياسي الذي أصبح تنابذاً سياسياً (وفق منهج نافع وصحبه) أحالت التسامح الديني إلى تناحر ديني في حرب رفعت فيها شعارات الجهاد دجلاً وافتراءً. وجاءت ثالثة الأثافي في عصفها التسامح الاجتماعي بالتفريق بين شعوب وقبائل وإثنيات أهل السودان، فبدلاً عن أن يتعارفوا وفق المنهج القرآني أصبحوا يتقاتلون طبقاً لدين العصبة!

باسم التسامح الديني دشنت السلطة بيوتاً لا يذكر فيها اسم الله وأحالتها لأوكار تمارس فيها البطش والتعذيب والتنكيل. باسم التسامح السياسي المزعوم لجأت العصبة في بواكير عهدها بالسلطة إلى بث الرعب في قلوب الناس، فأقدموا على قتل 28 ضابطاً وعشرات من صف الضباط والجنود في شهر لو استحل فيه صائم دم باعوض لاستوجب القضاء والكفارة، ثم قبرتهم وبعضهم كان يئن من الألم. باسم التسامح الاجتماعي حصدت أرواح أكثر من مائة طالب في معسكر الخدمة الإلزامية بمنطقة العيلفون وآخرين كان سلاحهم القلم والألم في جامعات الخرطوم والجزيرة وكسلا والفاشر. باسم التسامح الاجتماعي مارست هواية القتل والتنكيل في مواطنين أبرياء زادهم الصبر على المكاره في كجبار وبورتسودان ونيالا. باسم التسامح السياسي كان القتل غير المسبوق في تاريخ السودان لمتظاهرين عُزَّل في ضواحي الخرطوم ونيالا ومدني بتلك الصور التي أدمت قلوب ناظريها. باسم التسامح الاجتماعي تم تشريد الملايين في دارفور وإزهاق أرواح مئات الآلاف، تواضع الرئيس

الضرورة وقال إنهم محض عشرة آلاف لا غير، كأنهم يا مولاي (حزمة جرجير يعد كي يباع) كما قال الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم!

في الضفة الأخرى من النهر هل يعتقد عاقل أن المغبونين والمظلومين والكاظمين الغيظ، يمكن أن ينتظروا عند المصب إلى أن تحمل المياه لهم جثة عدوهم؟ إذ أن لكل فعل رد فعل كما تقول قوانين الطبيعة. فلنتأمل ظواهر باتت تسري بين الناس ويتفاقم أثرها يوماً بعد يوم. على أنني أتساءل هل رأى أحدكم أو سمع أو قرأ أن مواطناً سودانياً قذف حاكماً بكرسي أو (مركوب) أو سمع كلمة حق في وجه سلطان جائر مثلما فعل محمد حسن البوشي مع نافع علي نافع، أو طُرد بطريقة مُهينة كما حدث مع نافع نفسه في مأتم الشهيد السنهوري بضاحية بري؟ هل استشعرت العصبة تلك الكراهية التي انداحت بين الناس في مجالسهم وهم غير آبهين لمآلتها؟ هل قرأوا هذا النقد المكثف في وسائل الإعلام المختلفة لدرجة بات المرء يتساءل عمن هم مناصروهم؟ هل أدركت العصبة الغضب الذي بات يسيطر على كثير من الناس لدرجة كادت أن تفقدهم الكراهية وقارهم فيما يقولون ويسمعون ويكتبون؟ هل عرفت العصبة أبعاد ومغزى السخرية التي تزكَّت نارها وزاد أوراها؟ هل طرق دعاء المظلومين وتوسل المغبونين آذانهم؟

إن العاقل من اتعظ بغيره والحكيم من تدبر أمره، والجاهل من كان عدو شعبه ونفسه. واهم من يظن أن الكرسي سيظل كرسياً ولن يتحول لعربة مفخخة، وواهم من يعتقد أن (المركوب) لن يصبح كلاشنكوف، وواهم من يظن أن الكراهية والثأر مشاعر يتناولها الناس عند اللزوم. وواهم من يعتقد أن الغضب يظل قصيدة شعر حالمة، وجاهل من يظن أن النيل لن يجري جنوباً. لست زرقاء اليمامة سادتي، ولا ادّعي رجماً بالغيب، ولكنني بحس المواطن الذي يخشي على وطنه وقلبه على مواطنه،

أقول إني أرى وميض نار أوشك أن يكون له ضرام، فعلى العصبة أن تتحسس موقع أقدامها من قبل أن يأتي الطوفان الذي كانوا عنه يحيدون!

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

نداء خاص للمغتربين والمهاجرين السودانيين

كنا قد ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي، أننا نحن معشر السودانيين وجدنا أنفسنا في ظل حُكم العُصبة ذوي البأس نرزح بين فسطاطين. مستغربون يقبعون تحت ويلاتهم في داخل الوطن، ومغتربون يكتوون بنيران سياساتهم وقد تبعثروا في مختلف أصقاع العالم. ليس هذا فحسب، بل إن من نكد الدنيا على هؤلاء وأولئك ألا يعرف أحد عددهم أصلاً حتى يستقيم الحديث عنهم بصورة منهجية. لكن للدقة يمكن القول إن العُصبة عملت مرتين على إحصاء مستغربي الداخل خلال فترة حكمها التي تمطَّت وتثاءبت وبلغت ربع قرن إلا بضع أشهر. ومن المفارقات التي لن تدهش أحداً أن كلا المحاولتين كانتا لأسباب غير ما دَرج الناس على تعريفه بـ (الإحصاء السكاني) والذي يتعين على الحكومات المحترمة إجراءه حتى تستطيع إنفاذ مشاريعها التنموية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن العصبة المتجبرة أسقطت كل هذه الغايات النبيلة واستبقت وسائل القهر التي تضمن بقاء السلطة في حضنها بثلاثٍ شدادٍ. فتأبطت بهن شراً سمته (التمكين) وعاثت به في الأرض فساداً وطغياناً واستبداداً!
تذكرون يا سادتي أنه في بواكير تسعينات القرن الماضي، أعلنت السلطة الغاصبة عن عزمها إجراء إحصاء سكاني في 24 ساعة فقط. ومن عجبٍ أنها فعلت ودخلت به (موسوعة جينيس) للأرقام القياسية، وكأن الناس لا يعلمون أنه كان محض إحصاء أمني في إطار خططهم الرامية لاحكام القبضة على خناق الشعب السوداني. يومذاك فرضوا على المواطنين عدم مغادرة منازلهم مهما كانت الدواعي، وطافوا عليهم بمعلومات ظاهرها الإحصاء وباطنها الإخصاء، بغية تحقيق الغرض المذكور. أما المرة الثانية فقد كانت قبيل مهزلة الانتخابات الأخيرة التي أُجريت في العام 2010 وكان بهدف التمهيد لإجراء تزوير ممنهج لتلك الانتخابات. الأمر الذي تمَّ وفق ما خُطط له أيضاً، وبموجبه أُطلق عليها في الثقافة الشعبية (انتخابات الخج) فصارت اسماً على مُسمى. وسواءٌ هذه أو تلك، فنحن لسنا بصدد تأكيد أن العصبة تحكم قوماً لا تعرف عددهم، فهذا أمر لا يمكن أن يفوت حتى على فطنة (ذبيح الله مجاهد) الناطق الرسمي باسم إمارة طالبان الإسلامية. لكن ما نود تثبيته بحكم الواقع أن الأحياء والأموات في قاموس العصبة يتساوون في الرثاء. ألم يقل الرئيس (الضرار) إن عدد ضحايا حرب دارفور لا يتعدون عشرة آلاف قتيلاً!
بيد أن مغتربي الخارج ليسوا بأحسن حالاً من سابقيهم، مع فارق أن العصبة لم تجهد نفسها بإحصائهم.. لا سهواً ولا عمداً. ذلك لأنها ببساطة لا تحتاجهم في تزوير انتخابات وضعت سداً بينهم وبينها. كما أنها لا تخشاهم في زعزعة أمنها لأنهم واقعياً يوجدون خارج نطاق قبضتها الجغرافية. وعوضاً عن هذا وذاك فتحت منافذ البلاد على مصراعيها ليخرجوا زرافات ووحدانا في هجرة جماعية لم يشهد السودان لها مثيلاً. الغريب الذي لن يفجع أحداً أيضاً، أن العصبة تقر هذا التهجير بلسان ينضح تباهياً. فقد قال كرار التهامي إن جهاز شئون المغتربين الذي يدير مملكته، يُصدِّر ثلاث آلاف تأشيرة خروج يومياً (المذكور قال في حديث منشور إنه عُين في هذا المنصب بحكم أنه كان “غواصة” للجبهة الإسلامية أيام الطُلب، فتأمل!) كذلك قال فرح مصطفى وزير العمل إن عدد المغادرين في الربع الأول من العام الماضي 2012 بلغ نحو عشرين ألف مواطن. عليه يمكن القول إن العصبة أدخلت الإنسان السوداني ضمن الصادرات بأمل أن يدر عملات صعبة تسد بها جشعها، ولهذا لا غرو أنه كلما تكاثر أعداد الفارين من الجحيم، تنامت شهية العصبة لمزيد من الجبايات بدءاً من دمغة الأحياء، وانتهاءً بدمعة الأموات!
بما أن السوء بالسوء يذكر، كلنا يعلم أن سدنة العصبة يُشنفون آذاننا بحديث يكاد يفقد المرء وقاره من الضحك. فهم مثلاً يحدثونك عن فوائد الظلام عندما يتواتر انقطاع الكهرباء، ويذكرونك بضرورة الاستشهاد إذا وضعوا أعينهم على إرث طمعوا في أيلولته إليهم بعد رحيلك عن الدنيا، وإذا أفلست الدولة وصارت خزائنها خاوية على عروشها من أثر الفساد – مثلما هو الحال الآن – يقولون لك إن لهذا من صنع المتآمرين والطابور الخامس والإمبريالية العالمية. على ذات النسق، قال الرئيس المشير ضمن هرطقاته في المؤتمر الصحافي 23/9/ 2013 إنه اتّفق مع وزير المالية للسماح للمغتربين بإيداع أموالهم بالعملة الصعبة، وسحبها بنفس العملة متى ما شاءوا. هل سمع أحدكم برئيس جمهورية يمارس أفعال الحواة؟ فبغض النظر عن أن حديثاً كهذا يعبر عن طبيعة السلطة الديكتاتورية لأنه اتفاق بين رئيس ومرؤوس نُثر على الهواء الطلق.. كيف لرئيس ألا يحسن الظن بذكاء مغتربيه فيتحايل عليهم بالحديث في أمر يعرفون دوافعه الآن، ويحدثهم في زمن أصبحت سلطته كمنسأة سيدنا سليمان تنتظر الإسقاط. أشهد أنني رأيت الكثير من الفهلويين في حياتي ولم أك في حاجة للمزيد، وواقع الأمر كنت قد كتبت من قبل وقلت إن الرئيس المشير رجل كذوب، ولم أفتر عليه كذباً، فقد جاء حديثنا مشفوعاً بالأقوال والأفعال الموثقة، ومع ذلك ما كنت أظن أنني أحتاج لنعت شخص يوماً بشيء أبغض من الكذب.. وأتضاءل حياءً من ذكره!
ذكرنا في المقال الماضي أن تحويلات المغتربين عبر المنافذ الرسمية تبلغ نحو 5 مليار دولار سنوياً. وقد قرأت منذ نحو أسبوع أن هذا الرقم انخفض قليلاً لأسباب غير معروفة بالنسبة لنا، إذ بلغت تحويلات العام الماضي 2012 نحو ثلاث مليارات دولار ومائة واثنين وسبعين مليوناً. وكنت قد ذكرت في مقال سابق معلومة موثقة، تقول إن السفارة السودانية في الرياض تقوم بإيداع 2 مليون ريال يومياً في حسابها البنكي (عبارة عن حصيلة مختلف الأنشطة التي فصلّناها في المقال المشار إليه) ويزيد هذا المبلغ في بعض أيام الأسبوع، نقول ذلك لمن يريد أن يستخدم الآلة الحاسبة في عمليات الجمع والطرح، أو الكر والفر بلغة العصبة الباطنية!
كذلك يطيب لي دائماً التذكير بأرقام يجتهد المنقذون دائماً لمحوها من الذاكرة الجمعية لأهل السودان، هذا على الرغم من أنها من بنات أفكارهم وليست من انتاج المعارضين والمغرضين والعملاء. أما تكرارها في مقالاتنا فيجيء أولاً من باب الذكرى التي تنفع الغافلين. وثانياً حتى يعلم الناس أنهم أُفقروا في بلدٍ غني بكل المقاييس المعروفة. فبالإضافة لتحويلات المغتربين البالغة 5 مليار دولار سنوياً. نقول إن عائدات البترول في الفترة من العام 1999 أي العام الذي شهد تصديره لأول مرة وحتى العام 2011 أي عام انفصال الجنوب، كانت نحو 70 مليار دولار. أضف إلى ذلك الموارد الطبيعية الأخرى والمعادن، وأضف الصادرات الحيوانية والزراعية من قبل أن تعبث العصبة بمشروع الجزيرة وإخوانه. فكيف يفلس بلد بهذا الثراء العظيم؟ وفي واقع الأمر نحن لا نخوض في تفاصيل فساد وثقنا له حتى كلَّ متننا ومتن غيرنا من الراصدين. كما أننا لسنا بصدد إعادة سيرة استبداد فاض كيله، فدونكم قولاً لم يجف رذاذه بعد، وهو ما تجسد في حديث (الهوت دوق والبيتزا والمساكن الشينة وركوب البكاسي) فإن لم يكن هذا هو الاستبداد بعينه، فقل لي يا صاح بالذي خلقك من ماء مهين، كيف يكون الاستبداد عندئذٍ؟ فنحن نعلم وأنتم تعلمون أن هذه العصبة عبثت بالمكونات الروحية والمادية لأهل السودان لدرجة يمكن أن يقول المرء إنه لولا دفع الله السودانيين بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً!
من المؤكد إن الناس في حيرة من أمرهم وقد تخالط صبحهم مع مسائهم، فالرئيس الضرورة مشغول بما يحب من نعم الدنيا الزائلة، أو إن شئت فقل شُغل عمداً بحسنييها معاً، ولعل بعضنا لاحظ أنه يكرر أرقاماً ويلوكها منذ سنين دون تمعن في مطابقتها لواقع يعيشه الناس ولا يحتاج (لدرس عصر)! مثلاً ما عاد الحديث عن سد مروي يجدي بعد أن مثل قمة الفشل كمشروع كثير الكُلفة قليل المردود. لكن إن أحببت أن تعلم يا عزيزي القارئ شيئاً عن النمل الذي أكل السكر وأفقر البلاد وأهلها فتأمل فقط في ما تحاشى الرئيس الضرورة ووزير ماليته الهمام الخوض فيه، وهي مخصصات البدعة المسماة بالدستوريين والذين يستحوزون على مخصصات تنوء بحملها السطور. العاملون منهم في جهاز الدولة يبلغون الآن نحو 828 دستوري كامل الدسم، في حين أن عددهم كاملاً يبلغ نحو 9025 وهم الذين تقلدوا مختلف المناصب منذ العام 1989 وبالرغم من أنهم غادروها فهم ما يزالون يحظون بمخصصات كاملة. في حين أن ساكن القصر وسدنته، من مساعدين يُفع ونواب رُفع وآخرين من وراء حجاب، تبلغ مخصصاتهم الشهرية نحو مليون دولار شهرياً. وتعلمون من كثرة ما ذكرنا وكررنا أن العصبة ظلت تخصص 70% من الميزانية طيلة ربع قرن للأمن والدفاع، أي لقتل شعوبنا بالحروب المتواصلة، في حين خصصت نسبة 10،4% للصحة والتعليم. ولعل محصلة كل ذلك حالة الإفلاس الكامل التي أطبقت على الدولة الآن، فقد وصلت ديون البلاد إلى أكثر من 45 مليار دولار، وتفشت البطالة لتسجل رقماً قياسياً، إذ بلغت نسبتها نحو 47% ونسبة الشباب بينهم أكثر من 70% أما التضخم فقد وصل إلى ما نسبته 43% فهل بعد هذه الأرقام يمكن لجفن أن يغمض أو قلب أن ينبض أو لسان أن ينطق؟
صفوة القول، ماذا نحن فاعلون؟ لا شك أنه في مثل هذا المناخ سيسيطر على عقولنا هذا السؤال الحائر، وسنظل نردده في صحونا ومنامنا، في سرنا وجهرنا، ونحن نرى الحراك الوطني قد بدأت نذره تمطر ثورة من سماء حبلى بأحداث جسام. وفقاً لما فصلناه، دعونا نوجه نداءً مخلصاً للمغتربين والمهاجرين بدعوتهم لقصر تحويلاتهم المالية في إطار الحد الأدنى، أي في حدود العيش الكريم للملتزمين نحوهم من أسرهم وأهلهم. وليتهم يغلون أيديهم عن أي تحويلات دون ذلك، سواء كانت مشاريع استثمارية أو شراء عقارات أو أراضٍ أو منازل أو أي شيء من هذا القبيل، وذلك حتى يوصدوا الباب أمام نظام ظل يوجه تحويلاتهم في أطر لا تعود على الوطن وأهله بفائدة مرجوة!
نعم نحن مجتمع تكافلي، ونحمد للمغتربين والمهاجرين أنهم حافظوا على هذه الشعيرة فشملت رعايتهم الأسرة الممتدة وهم يتابعون شهيق وزفير الوطن بقلوب واجفة ولا يدرون ما يفعلون. بل يمكن القول لولا المغتربين المبعثرين في فجاج الأرض، ولولا دول الاغتراب التي عشنا في رحابها سنين عدداً، لأصبحنا أمة متسولة بامتياز ونحن نئن تحت كلكل ديكتاتوريات تعد أنثى الملاريا (الآنوفيلس) أرحم منها في مص دمائنا! وبالطبع نحن لا نهدف من وراء هذه الدعوة لفصم عُرى هذه العلائق الاجتماعية التي نعتز بها، بقدر ما نريد أن تتكامل تضحيات من هم بالداخل مع مجهودات من هم بالخارج، للتخلص من نظام يعيش سكرات الموت الذي كانوا منه يحيدون!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!.

الأحد، 15 سبتمبر 2013

هلْ يَزحف الحَرَاك السُّوداني نحو خيار الصِفر؟!





فتحي الضَّـو
توقفت عن الكتابة لفترة  تربو على الثلاث أشهر، وهي فترة تطاولت حتى شعرت كأنها دهراً بالنظر لما نحن فيه غارقون. وفي الواقع لم يكن التوقف أمراً خُطط له أو قُصد عمداً، فهو قد جاء نتيجة ظروف اتصل بعضها برقاب بعض فحالت دون التواصل الراتب المعهود. هذه الظروف قد بدأت أولاً بدواعي أسفار، ثمَّ أعقبتها مظاهر أسقام، وبالطبع لا هذا وذاك يعنيان القارىء في كبير شيء، ولذا سنتجاوزهما بالحديث فيما ينفع الناس. بيد أنه بعد أن قضيت أوطاري من الأولى، وقضت الثانية أوطارها من جسمي، كان التأمل ملاذنا فيما تفاقم أثره وعظُم أمره في حال البلاد والعباد. وتعلمون إنه حال كثُر فيه توصيف المُنظرين، فمرة يقولون عنه إنه مُشكلة، وتارة أزمة، وثالثة كارثة. ولعل الأخيرة صارت أكثر واقعية بعد أن أنشبت أظفارها على الاثنين معاً وباتت تهددهما بالزوال جغرافياً وديمغرافياً. ولا يظنن أحد أن في ذلك شطح أو نطح أو حتى ضرب من ضروب المبالغة، فالأمثلة في عالمنا كثيرة وجميعها حالها يُغني عن سؤالها. أما في واقعنا فالشاهد أن انفصال الجنوب بالأمس، وما تمور به دارفور اليوم، هي محض مقدمات في إمكانية حدوث ما تأباه نفس كل وطني غيور!
أياً كان الحال أو ما سيؤول إليه، يمكن القول إن الفتق قد اتسع فعلاً على الراتق. فالأمر بمنظورنا لن يتوقف عند سقوط أو اسقاط النظام بقدر ما سيتوقف على التركة التي سيخلفها من ورائه، وهي الغاية التي لا ينبغي أن تتقاصر دونها الوسائل حتى يتم التعامل معها بمسؤولية تبعد عن الوطن شبح إعادة إنتاج الأزمة، فالعاقل من اتّعظ بغيره واستبان النصح قبل ضحى الغد. ولا يمكن القول إن هذه المعطيات مؤتمنة في ظل تكاثر الكتابات حول الشأن السوداني. فهذه الظاهرة – أي الكتابة - رغم أنها محمودة إلا أنه في تقديري غلب غثها على سمينها، واختلط فيها الحابل بالنابل كما يقولون. وإزاء هذا الوضع يخشى المرء أن تضيع قضايا الوطن الأساسية كما ضاع (عِقد على جيد خالصة) لهذا رأينا من المفيد استخلاص بعض النقاط التي ينبغي علينا التركيز حولها وتأملها بغية رسم خارطة طريق تعيننا فيما نحن فيه سادرون. ولأن المهم هو الحوار، حري بنا التأكيد قبل تسطير هذه النقاط، القول إنها تقبل الاختلاف بذات الروح التي تقبل بها الاتفاق. وسواء هذا أو ذاك، نأمل أن تشفع لنا غيابنا لدى القارىء، فهو من حقه أن يتوعَّد كاتبه مثلما توعَّد سيدنا سليمان هدهده إن لم يأته بالخبر اليقين!
أولاً: أصبح السودانيون يعيشون حياة غير طبيعية، مستغربون في الداخل ضُربت عليهم الذُّل والمسكنة، ومغتربون في الخارج لا عدّ ولا حصر لهم، لكن السلطة الغاشمة تعرفهم بسمائهم، أي عندما يضخون الخمسة مليار دولار سنوياً في الجسد المتهالك (تمثل 5% من الناتج المحلي، بعد البترول مباشرة قبل وبعد الانفصال) لكن المؤلم أكثر في حديث الأرقام، أنه عندما تسنمت العُصبة مقاليد السلطة قبل ربع قرن، كانت الطبقة البرجوازية - بحسب التوصيف الماركسي – تعادل نحو 2% من سكان البلاد، وكانت الطبقة الوسطى التي تعد بمثابة العمود الفقري للمجتمع توازي نحو نحو 48% وقدرت نسبة الفقراء والذين هم تحت معدل الفقر بنحو 50% بلا أي تمايز طبقي. لكن هذه النسب تخلخلت بعد هجوم التتار وظهر المجتمع الطبقي بكل سوءاته. إذ أصبحت الرأسمالية الطفيلية تقدر بنحو 5% ويمثلون السلطة الحاكمة وأزلامها، وهم من صار يتحكم في مصائر نحو95% من السودانيين بعد تذويب الطبقة الوسطى واندغامها مع قواعد الفقراء. وهي ذات النسبة التي يشار إليها باعتبارها نسبة الفقر في السودان بحسب الاحصائيات العالمية. وسواء زادت أو نقصت فهذه ليست أرقاماً صماء فقد عملت بالفعل على (إعادة صياغة الإنسان السوداني) سلباً على عكس ما زعموا. فلا غرو بعدئذٍ أن رأينا الكذب وقد حلّ مكان الصدق، وطغى الجبن على الشجاعة، واستشرى النفاق وانحسرت الصراحة، وتسيَّدت الرذيلة على الفضيلة، وشاع الحسد وتضاءل الإيثار، وانتشر الاحتيال وتوارت الأمانة، وفي خضم هذه المحرقة أصبح القابض على موروثه من الخلق السوداني القويم كالقابض على الجمر!
ثانياً: يعد الفساد المالي والأخلاقي من أسوأ ما نتج عن حُكم العُصبة، ذلك لما له من تبعات كثيرة عملت على تغيير الأنماط السلوكية للشخصية السودانية بحسب ما ذكرنا. وكنا قد كتبنا عن فساد العصبة بوثائق دامغة، وبالرغم أنها كادت أن تُطيِّر عقول قارئها إلا أنها لم تحرك ساكن من كانوا في غيِّهم يعمهون. على كلٍ ينبغي التأكيد من باب التوثيق على أمرين هامين تميز بهما فساد العصبة ذوي البأس. أولهما الحقيقة الراسخة التي تؤكد أن هذا الفساد يعد الأكبر كماً ونوعاً في تاريخ السودان على الاطلاق. وثانيهما، بالنظر لما يدّعونه فقد أصبح فساداً مؤدلجاً. تداوله أصحاب الأيادي المتوضئة ضغثاً على إبّالة، كأحد شعائر الدين التي يؤجر عليها المتسابقون. ودونكم قضيتان نوردهما من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين (فساد وزارة الأوقاف، وفساد شركة الأقطان) فأبطالها هم أنفسهم رعاة الدولة الدينية، وهم أنفسهم ممن يرتادون المساجد ويعتلون المنابر، وهم أنفسهم من يذرفون الدمع السخين حتى تبتل أذقانهم وهم متبتلون. وأرجو ألا يعتقد أحدكم أن الشفافية هي التي فتحت صحائفهم، فهذا ببساطة حدث في إطار مقاصة في حرب الجماعتين المتناحرتين في سدة السلطة. لكنني لن أغادر محطة الفساد هذه من دون أن أزودكم بوثيقة جديدة تطالعونها أسفل المقال، وقد وصلتني ضمن وثائق عدة سنعمل على نشرها. والحقيقة ما كنت سأفعل لولا أن صاحبها هو من وصم الشعب السوداني بـ (الشحادة) من قبل، وزاد عليها الآن بقوله لصحيفة الجريدة 13/9/2013 بأنهم قوم (متعودون على الرخاء ويصعب فطامهم) فتأملوها يا سادتي بلا تعليق، فقد تدركوا أن الموصوف عُرفاً بـ (الطفل المعجزة) تثاءب وتمطى وتساوت عنده الملايين والملاليم وبينهما طازج! 
ثالثاً: يقولون إن الاستبداد يولد الفساد وما في ذلك شك بالطبع وإن كان العكس صحيحاً أيضاً. لكن ما بالك لو قلنا إنه – أي الاستبداد – له لسان وشفتين في البلد الصابر أهله. ففي أعقاب كوارث السيول والفيضانات الأخيرة، لم يكن المواطنين المكلومين ينتظرون من السلطة أن تهديهم خيلاً ولا مالاً، لكن والي الخرطوم عبد الرحمن الخضر - قدّس الله سره - نطق بمشاعر الاستعلاء وطبائع العنجهية التي درجت عليها العصبة وأدلى بتفسير غريب في فقه الأزمة والكارثة. لحق به أيضاً معتمد الخرطوم الذي أعاد للأذهان قصة ماري أنطوانيت. وفي واقع الأمر هما امتداد لخطاب برعت فيه عصبتهم، ولو أنهم التفتوا قليلاً للمخطوط في باطن كتب التاريخ لما كلفوا أنفسهم مغبة الحديث. فهذا هو نفس الخطاب الذي عدّه عبد الرحمن بن خلدون من مظاهر زوال الحكم، وهو نفس الخطاب الذي حسبه عبد الرحمن الكواكبي من علامات زوال الدولة. ومالنا نذهب بعيداً في التنظير، قل لي بربك أين الطغاة الذين كانوا بين ظهرانينا بالأمس في دول الربيع العربي. على كلٍ نخلص إلى ما نود تثبيته وهو أن استبداد العصبة كفسادها تماماً، فهما مؤدلجان ظاهراً وباطناً. فالناطقون به هم أصحاب الأفواه المتمضمضة، وهل في ذلك قسم لتبيان بوار وعوار الدولة الدينية!
رابعاً: الشباب هم عماد الأمة ومستقبلها، وفي السودان يمثلون أكثر من نصف عدد السكان كما تعلمون. لكن المؤلم أن ما نسبته 47% منهم تحاصرهم العطالة والبطالة وتتهددهم السلوكيات التي يمكن أن تنتج عنهما. والحقيقة نحن لم نلهم الاهتمام الكافي وفي صدروهم إنطوي السر العظيم، وهو بالضبط ما كان محط أنظار العصبة على الدوام، فلم يتورعوا في جعلهم وقوداً للحرب الدينية التي ابتدعوها في جنوب البلاد، فألقموها نحو 20 ألف شاب ماتوا (سمبلة) ولم تثكلهم أمهاتهم!
خامساً: إنني على يقين أن الأنظمة الشمولية والديكتاتورية لا يمكن أن تغادر مسرح السلطة إلا بنفس الوسيلة التي تسلطت بها على رقاب العباد. فالواقع إن الذين يروجون لتسوية سياسية تساوي بين الجلاد والضحية، ويحاولون التحايل على ذلك تحت دعاوي ما يسمى بـ (التسامح السياسي السوداني) هم يفعلون ذلك بثمن فاضح. كما أنه انطلاقاً من العجز الذي يحيط بهم، هم يطمحون أيضاً في سلطة تجرجر نحوهم أذيالها المرهقة، أي دون أن يريقوا لها دمعاً أو يهرقوا لها دماً. ليس لأن هذا وذاك هما ثمن الحرية كما في تاريخ الأمم والشعوب، ولكن لأن سنابك خيول المغول الحاكمين هم من بادر وداس مبكراً على التسامح السياسي المزعوم، فأصبح ذلك بعدئذٍ سننهم وفرائضهم في حكم البلاد والعباد. وتأسيساً على هذا، فإن أي تسوية سياسية تسقط مبدأ المحاسبة على الجرائم الجنائية التي ارتكبها جلاوزة العصبة، أو حتى غض الطرف عن الفساد الذي أفقر البلاد، ستكون مجرد تسوية صلعاء تُعيد إنتاج الأزمة!
سادساً: ما أكثر شرور العُصبة حين تعدها، فهل بعد تأجيج نيران القبلية والإثنية حديث لمدكر؟ وفي تقديري أن الظاهرة هي نتاج أمرين لا ثالث لهما. الأول أنهم أقدموا على ذلك من أجل تغذية غريزة البقاء في السلطة، وهو ثمن بخس لو كانوا يعلمون. أما الثاني فهو نتاج طبيعي للحروب المتواصلة التي شنتها العصبة على شعوب السودان في الربع قرن الماضي. فقد بذل سدنتها ما وسعهم في تكريس منهج (فرق تسد) وهو أيضاً منهج بائس لو كانوا يدرون. فهذه الظاهرة عملت على تفتيت النسيج الاجتماعي وتهتكه، وهذه الظاهرة ضعضعت التعايش السلمي بين شعوب ومختلف قبائل السودان، بل إن هذه الظاهرة وضعت السودان كله ألان في (كف عفريت) لا سيَّما، وأن شبح الحروب الأهلية المُوسعة بات يدق على الأبواب بعنف. ومن عجبٍ فإن هذه الفئة الضالة تظن من فرط سُكرها بالسلطة أن النار إذا ما انداحت واتسع محيطها فسيكونون من الناجين!
سابعاً: كلنا يعلم أنه كلما تشبثت الديكتاتوريات بالسلطة عملت على تحويل مجتمعاتها إلى كائنات مسلوبة الإرادة. ليس هذا فحسب فالمتأمل للواقع السوداني يدرك تماماً أن الديكتاتوريات التي رزئنا بشرورها، وبالأخص التي نتلظى بنيرانها الآن، عملت بمثابرة متواصلة على تدجين الشخصية السودانية وفق مفاهيمها وتصوراتها وتهيؤاتها، ولا يمكن القول إنها لم تجد من استجاب لدعاويها وهي تعلم أن ذلك لن يعصمها من الهلاك. فهي في نهاية الأمر تريد مواطناً مطيعاً ينجز واجباته ولا يتحدث عن حقوقه، وتوهمه بأنها تفكر نيابة عنه، وتقنعه بأنها تعرف ما يضره وما ينفعه. والمفارقة أن الأمر في حالة (دولة الصحابة) الماثلة بين أيدينا يزداد تعقيداً، نسبة لاختلاط المقدس بما تعارف عليه العقل البشري. فهؤلاء يزعمون أنهم يحكمون بتفويض من رب العالمين، وبالتالي فإن ما يقررونه يأتي مبرأ من الخطأ لأنه من شيم الخَلق. نقول ذلك بعد أن لاحظنا أن الديكتاتوريات بذلت ما وسعها لتكبيل الإنسان السوداني عن إعمال الفكر، بل اجتهدت لاغتياله وليس تكبيله، تماماً مثلما حدث للأستاذ محمود محمد طه. وبالنظر لواقعنا يمكن القول إنها نجحت في محاربة الفكر بدليل أنه بعد ما يناهز الثلاثة عقود زمنية على رحيله، لم تستقبل المكتبة السودانية عملاً فكرياً متكاملاً سوى كتاب الدكتور محمد محمود الذي صدر مؤخراً تحت عنوان (نبوءة محمد/التاريخ والصناعة) فبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع كاتبه، فالثابت عندي أن الكتاب وفق الجهد المبذول فيه، يعد علامة هامة في إحياء سنن بضاعة كسدت، أو فلنقل كادت أن تكسد في الواقع السوداني!
من جهة أخرى، لعل الذين يتابعون الوسائل الإعلامية العربية عموماً والمرئي منها على وجه الخصوص، تأخذهم الغيرة في مشاهدة الحوارات الفكرية الثرة بدرجة يكاد المرء يعجز عن متابعتها. هؤلاء يدلون بآرائهم المثيرة للجدل بعمق وثبات ووضوح، نشاهد ذلك في مجتمعات المغرب وتونس والجزائر ومصر والعراق ولبنان وسوريا.. ألخ، وبعضها يمر بفترات مخاض عنيف. في الوقت الذي نتضاءل معه ضعفاً ونتوارى خلفه خجلاً ونعجز في التعبير عن خيبتنا حتى في عرض قضايانا السياسية ناهيك عن الفكرية. أنظروا إلى ما أنتجنا خلال حقبة ربع قرن في ظل دولة (المشروع الحضاري) ففي بدايتها تشدق الدكتور حسن الترابي عرّابها وخريج السوربون بقوله (يكفي أن اسم السودان أصبح على كل لسان) وسيان الأمر عنده أكان ذلك خيراً أم شراً. ثم أنظر لحوارييه وهم يعيشون وهم المشروع بزاد قوامه عبارات (لحس الكوع) و (بلوها وأشربوا مويتها) و (سلخ جلد الكديس) وفي تقديري أن الحركة الفكرية الدؤوبة في بعض المجتمعات المذكورة هي التي جعلت بينها وبين تمدد الإسلام السياسي سداً، وحالت دون أن يغرس شوكه المسموم في لحمها. كما يمكن القول إن الفقر الفكري الذي نعيشه هو الذي جعل تجربة الإسلام السياسي البائسة تتمدد في ساحاتنا منذ أن وضع (أخوان الشيطان) بذرتها في العام 1977 وواصلوا رعايتها في العام 1989 بالانقلاب المشؤوم وحتى يومنا هذا. بتأكيد أن الفقر الفكري الذي نعيشه هو الذي جعل منّا دولة هامشية رغم تنطع الترابي، وتعلمون أن أي أمة لا تجعل من الفكر غاية همها، هي أمة عاطلة وباطلة وتشكل عبئاً على المجتمع الدولي!
ثامناً: إن الفقر الفكري صار متبوعاً بما لا يدع مجالاً للشك بفقر ثقافي وإعلامي أيضاً. فالصحافة التي نطالعها اليوم هي وريثة لصحافة عمرها الآن أكثر من قرن. صحيح أن الديكتاتوريات ناءت بكلكلها على صدرها وأورثتها هذا الحال البيئس، وأزيد أكثر أن الديكتاتورية المحجبة الحالية جعلت من الإعلام هدفاً مركزياً. ففي القطاع المرئي خصصت ميزانية تقدر بنحو خمسة مليار جنية سوداني سنوياً للفضائية التي يُضفى عليها صفة القومية عنوةً وابتساراً لأن هذه المليارات هدفت إلى صُنع الأوهام وضخ الأكاذيب وتزييف الوعي. وحتى تكتمل هذه الرسالة القاصدة فقد تمَّ تأسيس قنوات فضائية أخرى بواجهات مختلفة، وإلى جانبهم عدد من المحطات الإذاعية. أما في مجال الإعلام المقروء فأعلم - يا رعاك الله - أن جميع الصحف (عدا الأيام/ القرار/ الجريدة) مملوكة لجهاز الأمن والاستخبارات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وغني عن القول فثمة تفاصيل يعرفها من كان في المهد صبياً، لهذا كان من الطبيعي أن تكون مواقفها مرتبطة بثيرموتر الأخذ والعطاء. ولكن أرى لزاماً علينا استثناء رهط من الصحافيين والكُتاب الشرفاء، نعرفهم بمواقفهم الراسخة ونخشى أن نؤذيهم إن أفصحنا عن ذكرهم!
تاسعاً: ما يؤرقني حقيقية أن النظام سواء بأفعاله الخرقاء أو بنظرية ردود الفعل، صنع تنظيمات أكثر تطرفاً منه، وقد لا يعلم بعض القراء الكرام أن ثمة 14 جماعة تكفيرية تمارس دعاويها بلا حسيب أو رقيب فوق رؤوسنا. هذه التنظيمات تكفر بعضها بعضاً. إذ تكفر السلطة نفسها أحياناً كنوع من أنواع الابتزاز، وتكفر أصحاب توجهات يفترض أنهم ينهلون من نفس مرجعيتهم، مثلما فعلوا مع السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي، وتكفر كذلك المتصوفة الذين نهضت العقيدة الإسلامية على أكتافهم في السودان. ولعل الناس تابعوا بقلوب واجفة حروبهم المقدسة التي شنوها لتكسير قباب بعض الأولياء من الأموات، والناس أيضاً شاهدوا مواجهات مسلحة في المولد النبوي مع اتباعهم من الأحياء في السنوات المنصرمة، وشمل ذلك محاولات اغتيال الشيخ الصابونابي والشيخ أزرق طيبة. أما أصحاب المذهب العلماني – كما في قاموسهم - فهؤلاء رجس من عمل الشيطان ينبغي اجتثاثه. فهل اعتبرنا يا أولي الألباب، وتأملنا حال وطن يقف على شفا حفرة من الجحيم، علماً بأن مصير الذين وقعوا في ذات الجحيم ماثل أمام ناظرينا!   
عاشراً: نخلص إلى حقيقة مريرة وهي أن البلاد تقف الآن في مفترق طرق، تتحكم فيه ثلاث مسارات، ضلع يقف عليه نظام فاشل، وثانٍ تمسك به قوى سياسية عاجزة، وثالث تتشبث به قاعدة شعبية عريضة تقف لا مبالية نتيجة لكل ما ورد ذكره أعلاه، وثمة شريحة خرجت من بطن الفئة الثالثة هذه وقوامها رهط من المخذلين والتيئسيين والمتشائمين دوماً، وهم من يشيعون أفكاراً هدامة بغية تفتيت عزم الناس، ووهن عزيمتهم، والقبول بالأمر الواقع. وعلى الرغم من سوداوية هذه الصورة إلا أن الراجح عندي، بل هو الذي لم أفقد الأمل فيه يوماً وأكد أن الحراك السوداني سيبدأ الزحف نحو خيار الصفر، وأن مسألة سقوط النظام مسألة حتمية طال الزمن أو قصر. ليس لأن الأزمة الاقتصادية الراهنة هي السبب وإن كانت واحدة من تجلياتها، ولكن لأنها أزمة أخلاقية انطقت الحجر العصيا، وتراكمت أسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمن ألقى السمع وهو شهيد !
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!