المتابعون

الخميس، 9 مايو 2013

إِنِّي كَفَرتُ بِصنَمِكُم الذي تَعبُدُون!

يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
عندما استلمتم السُلطة يف السودان بانقلاب عسكري صبيحة الثلاثين من يونيو1989م كنا نعيش في ظل وطن ممدود ونظام ديمقراطي برلماني معدود. أياً كان ضعفه وقواه، ومهما بلغ من فجوره وتقواه، فقد ذهبنا إلى صناديق الاقتراع واخترناه طواعية بملء إرادتنا. ليس لأننا نؤمن بأنه الحكم الأمثل لبلادنا فحسب، ولكن لأن واقع بلادنا نفسه يشهد بذلك. فنحن شعب كثرت إثنياته حتى كاد أن يعجز الأنثروبولوجيون عن عدِّهم وحصرِّهم. ونحن قوم تعددت دياناتهم لدرجة احتار الثيوقراطيون في تعايشها كما الحمل الوديع قرب ذئب لئيم. ونحن أناس تباينت ثقافاتهم فصار الديمغرافيون يحسدوننا على ثرائها أكثر من شعوب تمنتها ونصبت لها شركاً فعزّ تصيُدها. من أجل هذا كانت الديمقراطية غايتنا والحرية وسيلتنا، ذاك هو النظام المثالي الذي آمنا به وقلنا إنه من سيحفظ لنا حقوق هؤلاء وإن كبُرت ويُبيِّن واجباتهم وإن صغُرت. وقلنا إنه النظام الذي سينقلنا من ظلام التطرف إلى نور الحضارة والانفتاح، وقلنا إنه النظام الذي سينهض بوطننا نحو آفاق التميز والتقدم والازدهار. وأخيراً قلنا إنه النظام الذي سيكفل لنا مقعد صدق بين القبائل والشعوب والأمم!
(2)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
لم نكن يومذاك نشتجِر في يوم سقيفة بني ساعدة طلباً لخلافة بغير وسائلها وطرقها وآلياتها. فليس بيننا من هو في مقام علي بن أبي طالب فيزهدها، وليس فينا من هو في قامة أبي بكر الصديق لتأتيه تجرجر أذيالها. لم نكن عصرئذٍ تخيم فوق رؤوسنا موقعة جمل ولا حرب نهروان ولا مذبحة كربلاء ولا معركة صفين، حتى ينادي فينا منادٍ يدعوننا لرفع المصاحف على أسنة الرماح. لم يكن عهدئذٍ ثمة فتنة كبرى ولا صغرى ولا يحزنون، لم يكن وقتئذٍ قد تمايزت صفوفنا بين أمويين وعباسيين، أو انقسمنا إلى سنة وشيعة، أو تقوقعنا بين مهاجرين وأنصار. على هدى المواطنة الحقة تواصينا، وكان المواطنون كأسنان المشط لا فرق بين أحدهم وآخر إلا بقدر ما اتّخذ الحرية ديناً والديمقراطية دنيا. كنا نعبُد الله على حرفٍ، ونتدافع بالمناكب نحو رحاب وطن عظيم، يرحم فيه كبيرنا صغيرنا ويوقر فيه صغيرنا كبيرنا. لم نكن في حاجة لأذقان تشهد سلامة إسلامنا، ولا لغُرة فوق جباهنا تؤكد سمو إيماننا. كنا نُزكي في صمتٍ ونصوم بخشوع ونُصلي في قنوتٍ وندعو ربنا بلا قنوط! فيا أيها الناس إن كان دينهم يدعو للفتنة، ويُفرق بين المرء وأخيه في دولة المواطنة، ويأمر بالمنكر وينهي عن المعروف، فاشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(3)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
كنا إذا وقفنا اعتدلت قامتنا كبرياء، وإذا جلسنا تواضعت أجسادنا بلا خيلاء. هبطتم علينا كالجراد ففغرنا أفواهنا دهشة وطأطأنا رؤوسنا خجلاً. كانت الديمقراطية أكبر همنا ومبلغ علمنا، تمنيناها مبرأة من العيوب ولم نقل إنها قرآن مُنزَّل أو إنجيل جديد. ارتضيناها لأنها غدت سُنة ماضية في حيوات البشر، يعزّ الشعب بهاَ من يشاء ويذلُّ من يشاء. هي ذات الديمقراطية التي أخرجت شعوباً من ظلمات العصور الوسطى إلى رحاب الحضارة والتقدم والازدهار. لكننا كنا في غفلة من أمرنا، أو كُنا من البراءة بمكان بحيث ظننا أن مسيلمة قُبر مع الأولين متوسداً كذبه. بل كنا من السذاجة حين اعتقدنا أن عبد الله بن أبي سلول لن يعود شاهراً نفاقه ودجله فوق محنتنا. وكنا من اللامبالاة بدرجة لم نتخيل فيها أن أكثر من بروتس كان يعيش بين ظهرانينا، وقد خبأوا خناجرهم خلف ظهورهم ليوم كريهة وطعان جِلس. كنا كالحمقى الذين يبحثون عن ظلٍ في ليلة السكاكين الطويلة، ولم يكن ثمة ظل يومئذٍ سوى ظل الحقيقة. فيا أيها الناس إن كان دينهم يشيع التخلف ويحض على المؤامرة، ويحرض على الكذب، وينشر النفاق بين بني البشر، اشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(4)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
بعد أن نجحتم في الانقلاب المشؤوم الذي دبرتوموه بِاسمِ الدين بحيلٍ يعجز الحواة عن فعلها، شرعتم بِاسم الله في تدنيس أرض كانت عذراء كقلوب ساكنيها، وبِاسم الله ولغتم في الفجور حتى زلزلت الأرض زلزالها، وبِاسم الله سعيتم في فضاءات الوطن فملأتموها ظلماً وجوراً وحروب حتى تصدّعت أركانه واشتعلت نيرانه. قتلتم شباباً يفعاً بتهمة أصبحت بعدئذٍ دينكم ودنياكم وآخرتكم. أزهقتم أرواح طلاب أبرياء كانوا يرومون علماً يستبينوا به سبل الحياة وينشدون أخلاقاً تعينهم على نوائب الدهر. أهدرتم دماء من خالفكم الرأي والرُؤى، وقطعتم أرزاق عباد الله الكاظمين الصبر والغيظ، كان ذاك يوم أن تلثم الصحابي مجذوب الخليفة وجعل المنبر مقصلة كما الحجاج بن يوسف، وقال إني أرى رؤوساً قد أينعت في الخدمة المدنية والنظامية، فهب لمؤازرته في الحملة الانتقامية تابعه الطيب محمد خير (سيخة) فراحت بعدئذٍ جحافل المفصولين تجوب الأرض بحثاً عمَّا يسد الرمق ويحفظ الكرامة. ولأنه لا فضيلة مع الجوع، فقد أكلت القوارير بأثداهن، واستطعم اللاجئون خشاش الأرض في معسكرات الذُل والهوان. فيا أيها الناس لو كان هذا دينهم الذي يقطع الأرزاق، ويقتل النفس التي حرم الله، ويعلن الحرب على أناس شهدوا بربوبية الخالق تبارك وتعالى، فاشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(5)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
يا أيها الكهنوتيون الجدد، بِاسمِ الله والجهاد خضتم حرباً في جنوب البلاد ظللنا نردد منذ اندلاعها وحتى مقدمكم البئيس، أنها حرب ذات مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة المعالم، ظلَّ المخلصون يثابرون في اجترار الحلول تلو الحلول، منها ما كان قاب قوسين أو أدنى، كما الحال في الاتفاقية التي درأت الحدود (قوانين سبتمبر) بالشبهات، فدبرتم من أجلها الانقلاب وأعلنتم الحرب الدينية على مواطنيكم وقسمتموهم بين فسطاطين، جنوب كافر وشمال مسلم. طار التوصيف في الآفاق واستقر الوصف في النفوس، فبهت من بهت وفزع من فزع وكفر من كفر. ثمَّ مضى حين من الدهر تطايرت النعوش كما يتطاير الفراش حول النار. ألقمتم الثكالى حجراً فتجمد الدمع في المآقي، وشيعتم الوهم بين الناس بأساطير وأباطيل فتخثر الحزن في القلوب. ثمَّ انقلبتم على أعقابكم خاسرين بعد أن هش كفار من وراء الحدود عصاهم، فاضطربت أحوالكم وتقطعت أوصالكم وأذعنتم وقلتم سوف نجنح للسلم، فكان الثمن وطناً بأكمله قرباناً في مذابح الفداء، ليس للدين الذي تتظاهرون بمناسكه ولكن من أجل السلطة التي تتشبثون بطقوسها. فيا أيها الناس لو كان هذا دينهم الذي يقيد الحريات ويكمم الأفواه، ويحرف كلم الله، ويخدع عباد الله، ويفتري على خلق الله، فاشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(6)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
بِاسمِ الله ودينه الذي يحض على طعام المسكين، كنزتم الذهب والفضة والبترول، عبدتم الدولار والدينار والريال والدرهم. بنيتم للفساد بيوتاً تطاولت طبقاً فوق طبق. وركبتم دواباً تباينت أحداً مع أحد. بينكم صال السارقون فغضتم الطرف عن اختلاساتهم، وجال المرتشون فأصابكم وقر من أثر الخنوع. أقمتم الحدود على الضعفاء الذين لا يقوون على العيش بما يكدحون، وتركتم الأقوياء الذين يأكلون أموال الوطن بالباطل وما يدخرون. بِاسمِ الله والإسلام صرنا بفضلكم إرهابيون ونحن الذين كنا حينما نذبح خراف الأضحية تقطر عيوننا دماً ودمعاً. أصبحنا بأفعالكم مشردين ونحن الذين كانت تتقطر قلوبهم لوعة على فراق وطنهم ولو لبضعة أيام مما تعدون، أضحينا بجرائركم مجرمون ونصابون ومشبوهون ونحن الذين كنا نعتز بسمو أخلاقنا وجمال قيمنا وأصالة معدننا. فيا أيها الناس لو كان هذا دينهم الذي يشجع على الباطل ويحيد عن الحق، يزين الفساد ويحث على أكل أموال السحت، لو كان دينهم هذا الذي يرهب ولا يطعم من جوع، يرعب ولا يؤمن من خوف، فاشهدوا أني برىء من دينهم ومما يعبدون!
(7)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. هؤلاء يا الله صنعوا أصناماً من المال والسلطة والجاه والفساد والاستبداد والذل والهوان وسوء الأخلاق وعبدوها!
هؤلاء تاجروا بديننا ومأكلنا ومشربنا وصحتنا وتعليمنا وثرواتنا وعاداتنا وتقاليدنا وتراثنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وحياتنا وأحلامنا وآمالنا وطموحاتنا وأمننا وسلامنا وأرزاقنا وثقافتنا واجتماعياتنا، وفوق كل ذلك هؤلاء تاجروا بك يا رب العالمين.. تباركت وتعاليت وتنزهت عما يزعمون!
يا أيها الناس، اشهدوا أني بريء من أصنامهم التي يعبدون، ومن دينهم الذي يزعمون، وآمنت بربي الذي لا يعرفون!!

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية ولو طال السفر!!

ليست هناك تعليقات: