المتابعون

الأحد، 19 مايو 2013

كيف قَتل مصطفى عثمان شهيد (أم دم)؟!

على الرغم من أنه ليس في الأمر عجب أو ثمة ما يثير الدهشة، لكن هل لاحظت يا عزيزي القارىء تزايد الهجوم على نهب المال العام، خصوصاً ثروات البلاد – ما ظهر منها وما بطن – وبصورة يكاد يراها حتى من فقدوا نعمة البصر؟ أقول ليس في الأمر عجب لأن هذا دأبهم منذ أن اغتصبوا السلطة بالانقلاب العسكري/ العقائدي في العام 1989م وكانوا أشبه بالتتار الذين أحالوا نعيم بغداد إلى جحيم. ولكن طالما أن تلك هويتهم وهوايتهم معاً، ترى لماذا ازداد وطيس النهب في الآون الأخيرة وطفح كيله؟ في تقديري أن الظاهرة ترجع لعدة أسباب، سنفصح عن ثلاثة منها:
أولاً: المعروف أن الأنظمة الشمولية والديكتاتورية مهما طالت سلامتها فإنها تشيخ وتهرم بنفس درجات صعودها. وعندما يحيط بها العجز من كل حدبٍ وصوب، يصبح الإمساك بمفاصل الدولة أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. ولأنها تعتمد على آليات التخويف والترهيب والترعيب، فهذه الوسائل لا تضمن ولاءً ولا تدرأ بلاءً. فضلاً عن أنها ذات سقف محدود، ومهما بولغ في ممارستها فإنها حتماً سترتد إلى نحر صانعيها. هكذا قالت دروس التاريخ التي لا تُحصى ولا تُعد، أما قولنا نحن فيؤكد أن العصبة تعيش أسوأ حالاتها، وأن دنو أجلها قاب قوسين أو أدنى، وذلك ليس تمنياً ولا تنطعاً ولا رجماً بالغيب. بل هي معلومات توافرت لنا ووثائق ما زالت تترى علينا حتى ظننا أننا نجالسهم في دواوينهم الخاصة أو مكاتبهم العامة. فهؤلاء قوم مكشوفي الحال حتى وإن تدثروا بالأمن وتزملوا بالقوة. وما على الذين تساورهم الشكوك سوى مضغ الصبر قليلاً فسيروا بعد حين (نمر الورق) على آلة حدباء محمول!
ثانياً: في ذات السياق، ليس غريباً على من شعر بدنو أجله أن يضاعف من نهب ثروات البلاد. ذلك ما يسميه السودانيون في ثقافتهم العامة بـ (خَمْ الرماد) في إشارة للنهل من المحرمات قبل الدخول في شباك المحظورات. فنظام العصبة يعيش انهياراً داخلياً متفاقماً حتى وإن تجمَّل سدنته!
ثالثاً: كلنا يعلم الظروف الاقتصادية التي نتجت عن انفصال جنوب السودان. وهو الانفصال الذي استسهلته العصبة بخلطها (حسابات الحقل والبيدر) الأمر الذي ذهبت جراءه ما نسبته 85% من صادرات البترول، كانت الميزانية تعتمد عليها منذ تصديره في العام 1999 وتبعاً لذلك أهملوا القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الزراعة، بل أحالوها لصعيدٍ جُرُزاً. ومع ذلك ما يزال الطيبون في بلادي يتساءلون عن 70 مليار دولار (بحساباتهم الرسمية) عبارة عن عائدات البترول لعقد من الزمن، لم يروا منها حتى (الزفت) وإن ماثل هوية دمغت حياتهم!
الإجابة ببساطة أن العائدات قد ذهبت لسبيلين، الأول، تمّ تخصيص 70% من الميزانية للأمن والدفاع نتيجة عوامل الخوف والرعب والهلع الدائمة التي ظلوا يعيشون لججها وهواجسها. بالرغم من أن الجيش المُفترَى عليه أو المُفترِى على شعبه، تمّ تسخيره لحروب داخلية ولم يحارب عدواً أجنبياً خارج حدود الدولة السنية منذ تأسيسه. أما السبيل الثاني، فلم يكن في حاجة لإثبات، فقد شاهد الناس الجيوب التي انتفخت والأوداج التي تورمت والبطون التي تكورت. وفي دولة المشروع الحضاري، شاع الحرام باعتباره حلالاً، وتفشى الفساد بحسبه شطارة، وتخلخل النسيج الاجتماعي بعد أن سادت الشحناء والبغضاء والكراهية، واستشرى النفاق، وانتشر الحسد، وتدهورت الأخلاق، وتضعضت المباديء وأنزوت قيم توارثها الناس كابراً عن كابرٍ!
ما أكثر الخطايا التي روجت لها العصبة بفقه التقية. وما أكثر الأخطاء التي ارتكبوها بفقه المصلحة. ولأن المال هاجسهم والجشع غايتهم، فقد شرعوا في بيع كل شيء دون أدني اعتبار لأي شيء. فالعصبة لا تعرف قيمة الأرض وإن تشدقت بالأهازيج الدينية والأغاني الوطنية، ولننظر لما آل إليه حال مثلث حلايب تحت ستار الصفقات السرية، أو الفشقة حيث تدور حرب صامتة بين الأهالي والقوات الأثيوبية، أو تشاد التي صارت تسرح وتمرح في الأراضي السودانية كلما أرادت التنزه لاصطياد معارضيها. يشعر المرء أحياناً لكأنما يشاهد السودانيون فيلماً من أفلام الرعب.
بين غمضة عين وانتباهتها علموا أن مشروع الجزيرة الذي يعد من أخصب المناطق الزراعية في العالم، ويمتاز بخصائص وخواص فريدة أصبح هشيماً تذروه الرياح. وأن البلد الذي كان لديه أُسطول جوي بشعار (سفريات الشمس المشرقة) غَرُب مجدها، وصارت مثل كرة (بنج بونج) تتقاذفها أيدي الفاسدين. ومثلها غرقت هيئة النقل البحري في لج عميق، وتبعتها هيئة النقل النهري، والسكة حديد، وبالأمس طُرح مصنع سكر سنار في المزاد. ولكن هل يندهش المسلمون إذ علموا أن من ادّعوا التفويض الإلهي خصخصوا حتى كتاب الله (القرآن الكريم) والباب مشرع والشواهد قائمة لمن أراد التحقق!
ولكن كيف قَتل مصطفى عثمان شهيد أم دوم؟ أو بعبارة أخرى كيف قتل الرجل الأملس الأمرد الكثير التدليس، ذلك الشاب الذي لم يبلغ العشرين ربيعاً حتى يحقق بعض آماله وأحلامه في الحياة، سيّما، وهو الإبن الوحيد بين حفنة من البنات؟
تحت مظلة البيع الشامل تلك بزغ نجم مصطفى عثمان أو (الطفل المعجزة) ولا يحسبن أحد من القراء أنني أسخر منه أو أسبغ عليه لقباً يستهجنه. الواقع أن ذلك هو عين ما تكرّم به عليه المدعو كمال حسن بخيت، أو الصحافي المكتنز ورماً وسحتاً ونفاقاً، ذكر ذلك في الصحيفة التي يترأس هيئة تحريرها غصباً، ومن فرط جهله ظنَّ أنه يمدحه. ويبدو لي – والله أعلم – أن الموصوف نفسه أسعده الوصف أو أنه حسب نفسه كذلك. جاء هذا في أعقاب معركة (الإخوة الأعدقاء) لعل البعض يذكر كيف سخّر انتهازيته تلك في السعي بين فسطاطي القصر والمنشية بحثاً عن سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود للسلطة وصولجانها!
يجدر بي أن أمهد الإجابة على السؤال المطروح، باقتباس من مقال مُحكم الصياغة حول ذات الموضوع، نُشر على صفحات هذا الموقع للصديق الزميل صلاح شعيب «أما على صعيد السمسرة الدولية في الأراضي فسيسجل تاريخ الصراع حول الأرض أن الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مسؤول بشكل مباشر عن إهدار أراضي السودان عبر عقود طويلة المدى، ومجحفة في حق المواطنين، وأصحاب الأرض. فهذا الوزير ظل يقضى لياليه في أجنحة الفنادق العالمية ليسمسر باسم حكومته في أراضي المقموعين من الناس، وتلك الأراضي الشاسعة التي صارت مستعمرات للاستثماريين الطفيليين من العرب والأجانب دون ضابط. ولكثرة جولاته العالمية المضرة بالأهل أصبح الصحافيون لا يدرون أين يقيم هذا “الوزير الجوال”؟. ولأن ذهن مصطفى إسماعيل مجبول على الطمع في الإقطاع، والذي هو جزء من موروث السلفية الأصولية، فإنه لم يكن ليراعي شيئا مثل مراعاته لضرورة فك ضائقة الأزمة المالية التي دخل فيها النظام بعد ذهاب نفط الجنوب».
ثمّ استشهد شعيب بما أورده موقع (حُريات) الإلكتروني وقال إن «رئيس غرفة تجارة جدة صالح كامل كشف عن موافقة الحكومة السودانية علي منح مليوني فدان من الأراضي الزراعية للمستثمرين السعوديين للاستزراع في إطار منطقة حرة، بحيث أن تكون خارج جميع القوانين السودانية. وأوضح كامل بحسب ما أوردت (العربية نت) أن الاجتماع الذي جمع الجانبين السعودي والسوداني بحضور مصطفى عثمان طرح موضوع استزراع مليوني فدان من الأراضي السودانية من قبل مستثمرين سعوديين دون إخضاعها لأي شروط، بحيث تكون منطقة حرة. وأكد أن المزارع ستكون ملكية سعودية في منطقة حرة ولن تعوقها أية عوائق من القوانين السودانية، وقال إنه لا يترتب على ذلك دفع رسوم أو ضرائب».
عند هذه النقطة، أرجو من القارىء الكريم أن يدقق النظر في خواتيم التصريح أعلاه على لسان المذكور. ومن ثمّ فليعد البصر كرتين وينظر إلى الوثيقة التي حصلنا عليها أسفل هذا المقال، والتي توضح كيف أن رجل الأعمال السعودي يبدي عطفاً وحناناً على بني جلدتنا أكثر من جلاوزة العصبة التى لا تعرف غير جني المال المخلوط بعرق البسطاء ودم الأبرياء. بل من المفارقات أن (السمسار الدولي) الذي فضحته أقواله وافعاله، هو نفسه الذي وصم الشعب السوداني في حديث موثق بالسفارة السودانية في الرياض بالتسول أو (الشحاتة) على حد تعبيره الدارج!
أصل الحكاية أن (المتسول الدولي) سبق وأن عرض أراضٍ خصبة توارثها الأهالي أباً عن جد. كان سلفه السمسار الآخر عبد الرحمن سر الختم والي الجزيرة السابق والسفير الحالي في أثيوبيا، قد وهبها لمستثمرين بعمولات سنميط عنها اللثام قريباً، فقام أصحابها من أهالي المنطقة بوقفة صمدية حماية لإرثهم التاريخي، ولكن ذهبت احتجاجاتهم أدراج الرياح، وبقيت الأراضي المنزوعة تحت قبضة أشباح أجانب (وقف كاتب المقال بنفسه على فصول هذه المأساة في زمن مضى) ثم جاء مصطفى عثمان ليكمل المسيرة الظافرة، لكن المستثمر السعودي الذي تناهي لسمعه مضاضة ظلم السلطة لبني وطنها، أبدى زهداً كما تشير الوثيقة في أي نزاع مع الأهالي. عندئذٍ اتجه من بيده ملكوت الاستثمار نحو أراضي أم دوم باعتبارها بديلاً يغري المستثمرين. الأمر الذي استفز أصحاب الأرض فاستنفروا أنفسهم لمجابهة الظلم والطغيان. لجأوا أول الأمر للشكوى بالطرق القانونية في دولة منحت القانون عطلة أبدية. والحقت ذلك باستخدام الغاز المسيل للدموع والدموع أصلاً لا تحتاج لغاز، وتبعته بالاعتقالات العشوائية التي لم تفرق بين شيخ وصبي، بعد أن استخدمت الرصاص الحي فسقط جراءه محمد عبد الباقي، الذي روت دماؤه الأرض التي سقط شهيداً دونها!
راحت أبواق إعلام النظام تروج لأكاذيبها وأباطيلها. جاء الوالي عبد الرحمن الخضر ومعه رهط من صحبه، وهي عادة أدمنوها كلما أزهقوا روحاً قاموا خفافاً لتقديم العزاء، استغلالاً لتسامح أهل السودان في الضراء واختراقاً لسماحتهم في السراء. بيد أنه انقلب السحر على الساحر، كانت تلك فرصة حانت لأهالي المغدور ليلقنوا الوالي وبطانته درساً في الأخلاق، فانسحبوا من سرادق العزاء وتركوهم نهباً لخيالاتهم المريضة، وهم يعلمون أن الدين الذي يدّعون اتباعه، قال إن الدم لا يغسله سوى الدم دون إسراف في القتل.
بيد أنه من سوءات العصبة التي تعرفون أنها لم تترك حجرا ولا بشراً إلا وطالته بشرورها. فمنهم من أصبح القتل منهاجه وشرعته، وهناك من كان ديدنه التستر على الجريمة وهو يدعي البراءة، وفيهم من تمثل الطهر وهو والغ في جرائم الفساد والاستبداد. وعليه فهم جميعاً في السوء سواء، فهل ستفلح عبقرية (الطفل المعجزة) في معجزة تنجيه من عذاب واقع، لا سيما، وأن الجرائم الجنائية لا تسقط بالتقادم!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

الخميس، 9 مايو 2013

هذا هو «رئيسكم» الذي لا تعرفون (2/2)!

كُنا قد أوردنا في الجزء الأول من هذا المقال، شذراتٌ من صفات ذميمة اتّصف بها الرئيس السوداني الهُمام المشير عمر حسن أحمد البشير، وعلى رأسها جريرة الكذب أو (الكضب) بالدارجة السودانية. بيد أنني لن أستطيع مغادرة هذه الصفة دون أن أورد سنام كذبه، لا سيّما، وأنه كذِبٌ راح ضحيته فتىً غضّ الإهاب كان سابحاً في أحلام الشباب إسمه مجدي محجوب محمد أحمد. حدث ذلك في بواكير الانقلاب الكارثة عام 1989 عندما كانت العُصبة ذوي البأس الحاكمة تبحث عن ضحية أو كبش فداء، فوجدت في الشاب ضالتها وحكمت عليه بالإعدام. يومذاك رفع رئيس القضاء جلال الدين علي لطفي الحُكم الجائر للرئيس بُغية التصديق عليه، فمهره المذكور بتوقيعه دون أن يطرف له جفن. وما أن علمت به أم الشاب اليافع حتى طفقت تبحث عن وسيلة لإنقاذ فلذة كبدها من حبل المقصلة. كان هناك من اقترح عليها الذهاب لمنزل من نُصِّبَ رئيساً للبلاد، وهي لا تعلم بل لا أحد يعلم غير مجايليه لقبه الذي كانوا به يتهامسون. توسلت إليه أن ينقذ ابنها من موت بات مُحدقاً، واقسمت له أنه ليس (تاجر عملة) كما وصموه، وأن الأموال التي وجدوها في خزينة الأسرة تركها زوجها بعد موته، ولم تمتد لها يد أنس ولا جان منذ نحو ثلاث سنوات. عندئذ قال لها المذكور ما إجتهدنا في توثيقه نصاً: (أطمئني يا حاجة ما حيحصل ليه شيء، الموضوع ده نحن عايزين نخوِّف بيه الناس ساكت، طبعا إنتي عارفه الأوضاع كانت كيف، ونحن جينا عشان نصلِّحها. أطمئني ما في زول بقتلوه في حقه) بهذه الكلمات التامات غادرت الأم الملتاعة، وقد إطمأنت بالفعل، وقالت إنها نامت ليلتها تلك كما لم تنم من قبل. وبالطبع لم تكن تعلم أن ابنها كان قد غرق في النوم أيضاً.. ولكنه نوم أبدي. وفي حوالي الساعة الرابعة صباحاً استيقظت على ما ظنته أضغاث أحلام، ولم يكن ذلك سوى أصوات ثواكل الدار وقد أحطن بجثمان الفتى الغرير مسجى بالدموع!
فلندع الكذب وشئونه ونمسك صفة ذميمة أخرى بشجونها. تلك هي العنصرية البغيضة ورائدها في عصبته ذات الرئيس الغطريس. وليكن مدخلنا لهذا الصفة الكريهة ما حدث منتصف شهر أبريل الماضي، أثناء زيارته لدولة جنوب السودان. سئل في مؤتمر صحافي عن وصفه السابق للحركة الشعبية بـ (الحشرة الشعبية) فقال مضطرباً بعد أن فاجأه السؤال فيما يبدو، إنه بالفعل عنى بها الموصوف وليس شعب جنوب السودان. كانت تلك - باستعارة وصفه - إجابة (مدغمسة) أورثتني رثاءً لحال من تنطَّع وأفتخر بما يفتقده، والمفارقة هو نفسه من تلقى ما سُمي (بيعة الفداء والموت) من القوات النظامية يوم 15/3/2009 بميدان الساحة الخضراء بالخرطوم!
كان واضحاً أنه عندما تعرَّت مصداقيته في المؤتمر الصحافي المذكور، نقض غزله بفمه وظنّ أن إجابته درأت عنه شبهة الحرج الذي حاصره، لكن السؤال الذي طرق آذان الحاضرين آنذاك.. هل الحركة الموصومة بالتحقير هي حركة تحرير الأوغادين، أم الحركة الشعبية لتحرير إرتيريا؟ فضلاً عن أنه لم يكن يعلم أن الموضوع ليس (الحشرة الشعبية) ولكن في قوله المصاحب آنذاك، والذي جبّ به أية عنصرية منذ أن نطق بها أبو الطيب المتنبي مجسدة في بيت شعره القمِيء (لا تشتري العبد إلا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيد) كان المشير البشير يومئذٍ قد استعاره وقال لسامعيه وهو يحكي انتفاخاً صولة الأسد (نعمل ليهم شنو إذا ما بجوا إلا بالعصاية) قالها وهو يُلوح بذات العصا التي ظل يهش بها على شعبه كلما ما اعتلى منبراً وضُربت له الدفوف!
دعونا نبحر قليلاً في باب العنصرية التي حمل لواءها الرئيس الضرورة. قبل أعوام خلت نطق الدكتور الترابي بواقعة اقشعر لها بدن السامعين. جاء ذلك توريةً في ثنايا سرده رواية عن الرئيس ورأيه في جرائم الاغتصاب التي حدثت في دارفور، فربطها المشير بنقاء عرقي متوهم. وهي الرواية التي سنمسك عن ذكرها لأن عباراتها تخدش الحياء ويعف القلم واللسان عن ترديدها. ولكن إن قال البعض إن تلك الرواية مجروحة لأن بينه والترابي ما صنع الحداد بعد المفاصلة. نقول ثمة رواية مماثلة أكثر اتساقاً وأصلب عوداً. كان قد حدثني بها صديق مصداقيته غير قابلة للشك. حدثت أثناء عمله في شركة خليجية بينها معاملات تجارية واستثمارية مع شقيق المشير (اللواء طبيب عبد الله حسن أحمد) والذي دعاهم لزيارة الخرطوم فحضروا وفي معيتهم صديقنا الصدوق. استقبلهم الشقيق عند باب الطائرة بمراسيم رئاسية أطلقت فيه الدراجات النارية صافراتها وأنوارها التي تزغلل العيون وتسر الناظرين!
في اليوم التالي أولمهم الشقيق عشاءً رئاسياً، أي كان في صدارته الرئيس والسيدة حرمه (الثانية) كمكرمةٍ لا ثناء بعدها. في أثناء تجاذبهم أطراف الحديث، بدأ الرئيس يتخفف من أعباء الرئاسة، فسرد على مسامع الحضور قصة ربما توهم أنها ستورثه تواضعاً عُرف به أهل السودان، فقال: (كُنا في زيارة للمملكة العربية السعودية لتأدية العمرة، رافقنا فيها مُطوِّف عشان يدلنا على المزارات الإسلامية، ولما وصلنا لقبر قال عنه إنه قبر سيدنا العباس، حينها نظرت للأخ بكري، وبكري ده بالمناسبة يا جماعة وزير معانا، فرأيته يضحك ضحكة مكتومة، لأنو بصراحة عارف الحكاية. والحكاية إنه لقى فرصته فيني، فأنا دائماً بقول ليه العباس ده جدنا. وكنت عايز أقول للمُطوِّف السعودي نفس الكلام، لكن قلت يا ولد أنت رئيس جمهورية يقوم السعودي يقول العبد ده متصلبط ساكت فينا) وللذين لا يحسنون دارجية أهل السودان أيضاً، نقول إن (المتصلبط) هو الذي يدّعي ما ليس حقه. عندئذ تمنى صديقي أن تنشق الأرض وتبتلعه، وهو نفس شعوري الآن ولربما شعور القراء الكرام أيضاً!
قلنا إن هذا رجل كثير الذنوب، وكان الأجدر بي ان أقول كثير الثقوب. ما أعنيه هو الذي أقر به كل علماء النفس من لدن سيغموند فرويد وحتى صديقنا البروفسير طه أمير طه، إذ حصروا مهمتم في دراسة تحليل النفس البشرية على قاعدة (ضرورة كشف الرغبات المكبوتة وإعادتها لدائرة الشعور لكى يواجه المريض الصراع الذي فشل في حله سابقاً) بهذا المفهوم كلنا مرضى والحمد لله، لكن ما نحن بصدده هو ما حدا بي أن أنبش ماضٍ لئيم، لا سيّما، ونحن في البلد الصابر أهله لا نعبأ بذلك كثيراً ولا نخضع الأشياء لتحليل علمي يجنبنا كثير من وعثاء السفر في خضم قضايا نجني حصرمها بعد أن تنال من أجسادنا واروحنا وعقولنا، وحينها لات ساعة مندم!
بهذا المنظور وقفت كحمار الشيخ في العقبة لا ألوي على فهمٍ، كان ذلك أثناء قراءتي قصة عفوية جاءت على لسان الحاجة هدية محمد زين والدة الرئيس (الأهرام اليوم27/3/2013) قالت إن المذكور مارس في طفولته شقاوة لم تستطع كبح جماحها لدرجة كاد أن يفتك بها ذات يوم (عمر كان طبعو كويس، لكن مرة دقيتو دقة شديدة عشان نزل البحر وهو طفل والدنيا كانت دميرة، وقلت لى امى يمة ولدى بغرق انا ماشة الحقو، وطوالى جبتو وكان عندو "قنقر" معانا وقال لى يمة قنقرى وينو؟ ما اشتغلتا بيهو وشلتا القهوة من أمى.. قام مسك يدى وقال لى تانى يمة قنقرى وينو؟ شلتا القهوة باليد التانية وبرضو ما رديت عليهو. قام مسك يدى التانية والقهوة اتكشحت. بعد داك دفرتوا جوة الأوضة أنا اضرب فيهو وأمى تضرب فيهو، أمى كانت ماسكاهو قلتا ليها يمة ماتفكيو لو اتفكا بيعمل فينا مصيبة.. أمى فكتو شال الحديدة أم رأسين البكسرو بيها السكر زمان وضربنى فى عضم الشيطان، وغاب سبعة يوم فى بيت جدو إلا بعد داك خجل واعتذر) أما نحن فنعتذر كذلك (لصعوبة النص باللغة الدارجية) ولابد وأن كل من قرأ هذا الحديث قد زالت دهشته مثلي فيما نحن فيه خائضون. فالقتل الجماعي والفردي يُصبح مبرراً، وأحاديث الإغتصاب والعنصرية لها ما يسندها، والفساد بشتى ضروبه لديه مرجعية. ولا يملك المرء سوى أن يقول لمثل هذا تضع الدول (الكافرة) القائل في دائرة الضوء تشريحاً وتحليلاً وتطبيباً!
بعد الانقلاب الكارثة، وفي سياق تسويق الدكتور حسن عبد الله الترابي نفسه ونظامه بنشوة الطواويس التي يجيدها ويدمنها. زار الشيخ العاصمة البريطانية لندن في بداية حقبة تسعينات القرن الماضي. ضمن هذه الزيارة رتب الحواريون له لقاءً خاصاً مع مجموعة من كوادر حركات الإسلام السياسي (تسرّب اللقاء مصوراً وشاهده عدد قليل من الناس، إن لم تخن الذاكرة فقد كان الدكتور عبد الوهاب الأفندي بينهم أو بالأحرى أحد منظميه) جرى فيه حواراً صريحاً وكانوا هم منتشون أيضاً بولادة دولة الخلافة الإسلامية في السودان. سأل أحدهم الشيخ سؤالاً معلولاً بشيء من الفذلكة التي تدعي معرفة بالواقع السوداني: (يا شيخ حسن أنتم أتيتم بحكومة الإنقاذ الوطني، ألا تخشوا من مصير السيد عبد الله خليل الذي جاء بالفريق إبراهيم عبود فنكص عن وعده له. وكذلك الشيوعي عبد الخالق محجوب الذي جاء بجعفر نميري فغدر به؟ عندئذٍ اعتدل الترابي في جلسته وأرسل ابتسامته المعهودة وقال بصلف وغرور لا يُستغرب (صحيح يا أخي الكريم، ولكننا أكثر ذكاءً من عبد الله خليل وعبد الخالق محجوب. أما عمر البشير فهو أقل ذكاءً من إبراهيم عبود وجعفر نميري! لا أدري ما إذا بُهت الذي سمع أو كفر الذي قال!
حري بنا القول إن محاولة تقصي الصورة الذهنية والنفسية للرئيس المشير، استلزمت منا تقصياً وعراً في سبيل رسم صورة تعين في سبر غور شخصيته بالمفهوم الفرويدي. في هذا الإطار علمت من مقربين بعضهم بالأصالة وآخرين بالتزلف، أنه يحب ثلاث ويكره ثلاث. فهو يكره القراءة والتقارير المطولة والاجتماعات، ويحب تلبية نداء شهوتي البطن والفرج وسماع الملح والطرائف. فمن أجل هذه وتلك قد يجتهد كثيرون في فك طلاسم حيرتهم. ولابد أن بعضاً منّا استوقف نفسه في العِقد النضيد من المحيطين به ويُحسبون في عِداد الأصدقاء المقربين.. عبد الرحيم محمد حسين، بكري حسن صالح، أسامة عبد الله، مصطفى عثمان إسماعيل، ومحجوب فضل بدري. وإن كان الناس يعرفون سيرة هذه الثلة بعِللها المعروفة، فلابد أنهم تساءلوا عن الأخير وهويته!
محجوب فضل بدري كائن متسلق رقى نفسه بنفسه في بلاط العصبة ودهاليزها. كان جندي في صفوف (سلاح الإشارة) برتبة جاويش، وعند تنفيذ الإنقلاب تولى تشغيل الإذاعة السودانية ضمن آخرين. وبعد أن قضى وطره واستطاب المقام ركل الجندية وتمرحل في الوظائف المدنية، إلى أن استقر به الحال كسكرتير صحافي للرئيس الضرورة. كيف حدث هذا؟ المحجوب يتمتع بعيني صقر تمرس في اختيار فريسته والانقضاض عليها. دخل أولاً على الرئيس الضرورة بمعدته، حيث تزلف للسيدة حرمه الأولى فاطمة خالد وسماها (أم الفقراء) وحيث لا دهشة في بلاط العصبة أصبح اللقب الآن (منظمة خيرية) كاملة الدسم، تقدم خدماتها للمؤلفة قلوبهم والغارمين وأبناء السبيل. ثم عكف على تدبيج مقالات تنافق الرئيس بتأكيد أنه سليل الدوحة النبوية. أما الوظيفة غير المرئية للمحجوب من العين، فإن له قدرات في فن الإضحاك وذر الطرائف والمِلح وهذا ما يحبه ويهواه الرئيس الضرورة أسوة بخلفاء الدولة الأموية والعباسية. بهذه الصفة تخصص (أبو نواس السوداني) في نشر البهجة والمسرة على المذكور حتى لا تنكده أخبار الحروب وضنك عيش مواطنيه. فضلاً عن المحجوب عُرف بمهارته في نقل أخبار العصبة ممن يحبون التثليث والتربيع في النكاح، والمولعون بممارسة أبغض الحلال، وغير الملومين ممن ينشرون جناح الذل من الرحمة على ما ملكت أيمانهم، ووطء (السراري) في الدهاليز المظلمة والبيوت الشواهق!
صفوة القول، إن كل العصبة فيما يفترون سواء. وسواءٌ مارس المشير دور الكمبارس أو أتقن دور الممثل المفترض، وسواءٌ استبقى نفسه في القصر أو فارقه فراق وامق. وسواءٌ ادّعى الرشاد وزهد أو تمادى في غيه وسدر. وسواء طال الزمن أو قصر. فسيذهب وعصبته حتماً إلى مزبلة التاريخ، ستشيعه دموع الفقراء وآلام المحرومين وآهات الثواكل المكلومات ممن فقدن أزواجهن وأولادهن وبناتهن، وستطارده ويلات الذين قطعت أرزاقهم، وستسبه لعنات الذين تشردوا داخل وطنهم، وتشتتوا في معسكرات الذل والهوان والمنافي والمهاجر وديار الاغتراب!
أما الزرع الذي جفَّ والضرع الذي تيبَّس والوطن الذي تقهقر، فذلك حسابه من جنس ما تعرفون... أليس كذلك أيها الشعب الكريم؟!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

هذا هو «رئيسكم» الذي لا تعرفون (1/2)!

كلما تأملت مصيبة السودان، الذي تحكمه عُصبة حرَّمت حلاله وأحَلّت حرامه. أستعجب من هذه المحنة التي تطاولت لما يناهز ربع قرن من الزمن، بل ومن شدة ما رزئنا بحرائها وضرائها يظن المرء أننا كل عام نُرذل فيها أضعافاً مضاعفة. وعلى الرغم من أن عُصبة الجبهة الإسلاموية لها من صفات الانحطاط الأخلاقي، ما يتقاصر دونه سوء الظن وتتقازم معه أفعال قوم عاد وثمُود وأصحاب الرَّس، إلا أن دهشتي أو بالأحرى محنتي تزداد غوراً، وجُرحي يزداد نُسوراً كلما أدركت أن من يقف على رأس هذه العصبة رئيساً غِطْريساً ليس فيه من خصال الرئاسة ما يؤهله لحكم هذا البلد المغلوب على أمره. ومع ذلك لن يجرمننا شنآن تطابق خصاله وطبيعة النظام القائم في الحكم عليه بالقسطاس. فكلنا يعلم أن مثل هؤلاء الذين يجدون أنفسهم بغتةً في سدة الرئاسة تزداد فرصهم في ظل الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، في حين تتضاءل بل تكاد تنعدم في ظل الأنظمة الديمقراطية. وذلك نظراً للبيئة الحاضنة التي تولد فيها الأخيرة. فالانتخابات الحرة النزيهة هي التي يتولى فيها الأكفاء المهام الجسام، وهي التي تكفل للشعب التمتع بالحريات الممدودة، وهي التي تستظل بسلطة تشريعية قوية، وتتعرش بقضاء عادل، الناس فيه سواسية كأسنان المِشط. بيد أن السؤال القديم المتجدد الذي يطرح نفسه في الحالة المُربكة التي نحن إزاءها.. هل كان الرئيس «الضرورة» المشير عمر حسن أحمد البشير حاكماً للسودان بأكمله أو حتى ما تبقى منه طيلة الفترة المذكورة؟!
واقع الأمر هذا سؤال تقريري، ومع ذلك أود أن أستعير إجابته بوصفٍ سديدٍ أتحفنا به كاتب آبق من عصبته الحاكمة. فقد قال الدكتور عبد الوهاب الأفندي في سياق مقال تحليلي نُشر مطلع هذا الشهر في المواقع الإسفيرية السودانية المبثوثة في أرجاء الدنيا: (في حقيقة الأمر فإن الرئيس البشير لم يقض 23 سنة حاكماً للسودان، لأن الحكم خلال العشرية الأولى كان في أيد أخرى، ولم ينفرد البشير بالسلطة إلا خلال الأربع أو الخمس سنوات الماضية. فقد كان البشير أمضى سنوات طويلة يمثل دور الرئيس بإتقان شديد، بينما لم يؤد مهمة الرئيس حقيقة بإتقان في أي وقت) بالطبع فإن كل من قرأ هذا سيقول، صدق الأفندي وكذبت العصبة فيما يفترون. ولكن بالقدر نفسه سيقولون، وما الجديد في أمرٍ يعرفه حتى الذين لم يبلغوا الحُلم في البلد الصابر أهله. ذلك بالطبع أيضاً صحيح، ولكن أقول إن تفصيل وتوصيف الأفندي هذا جلبناه لأمر في نفس يعقوب ووجد هوىً في نفسي كاتبه، بحيث بدا لنا إنه أعمق وقعاً وأصدق واقعية!
بيد أنني أود أن أؤكد قبل الخوض في تفاصيل هذا المقال، أنه غير معني بالجدل الذي ثار فجأة حول «ترشيح» المشير البشير نفسه من عدمها في العام 2015م وذلك لعدة أسباب، منها أن كلمة «ترشيح» إلى جانب أنها ليست من مصطلحات النظم الشمولية والديكتاتورية، فهي تؤكد ما دأبت عليه العصبة في الاستخفاف بالعقل الجمعي لأهل السودان. فهم يتحدثون عن دورتين رئاسيتين وكأن ما قبلهما من سنين سقطت في جُب النسيان. ويتحدثون عن دستور والقائم رغم علاته لا يتذكرونه إلا في الملمات. والواقع أن النظام وفق مرجعيته الانقلابية ظلت مسألة الشرعية الدستورية تؤرقهم، وقد حاولوا مراراً التحايل عليها بمنهج (الفهلوة السياسية) فطرحوا في بواكيرهم ما أسموه بـ (نظام المؤتمرات الشعبية) ثم ابتدعوا (الإجماع السكوتي) وعندما كسد سوقهما أخرجوا من جرابهم ما عُرف بــ (التوالي السياسي) وحينما ذهب ريح هذه الطلاسم، عمدوا مباشرة إلى التزوير الفاضح فيما سمي ب (انتخابات الخج). فضلاً عن أن الجدل المفتعل نفسه هو عبارة عن مسرحية قصد بها صرف الأنظار عن القضايا الأساسية بشراء الوقت. وبناءً على كل هذا، فإن كاتب هذا المقال يؤمن إيمان العجائز بعدم شرعية هذا النظام حتى لو لبثوا فينا ما لبث نوح في قومه!
نعود للبشير أو الرجل الكثير الذنوب وقد ناقض اسمه سيرته ابتداءً. ونود في هذا المقام أن نسلط الضوء على صفات تتناقض فيمن طمح لقيادة أمة، وهماً كان أم حقاً. كنت قد ذكرت في مقال سابق صفة ذميمة تعد من أمهات الكبائر وقد التصقت بالمذكور التصاق الوشم بالجلد. جاء ذلك في سؤال وجهته لضابط سابق في القوات المسلحة، وكان ممن أثق في مصداقيتهم وقد علمت أنهما ترافقا لعدة سنوات في ثكنة عسكرية واحدة. سألته في بواكير الانقلاب الكارثي عن رأيه في المذكور؟ طفق محدثي يذكر صفات عدّها حميدة حتى يكون منصفاً كما قال. غير أنه ختم شهادته بما لم يحلل عقدة من لساني، وقال إنه عَرف عنه صفة سيئة واحدة وهي (الكضب) وللذين لا يحسنون دارجية أهل السودان نقول إنها تعني الكذب. واقع الأمر لم يطل انتظارنا حتى نتحقق من هول ما ذكر، فقد علمنا بعد حين أنه ذات اللقب الذي اشتهر به المذكور في أوساط ضباط القوات المسلحة السودانية أو (عرين الأبطال) كما تُسمى. ولسبب لا أدريه أذكر أنه عندما أوردت هذا الإقرار في المقال السابق، استنفر رهط من عصبته أنفسهم وأمطروني بوابل من التكذيب. المفارقة أن المعلومات في زمن الأسافير لا تحتاج لمجتهد. إذ انداحت الأقوال والأفعال من لدن (عمر الكضاب) بدرجة أذهلت كل مرضعة عما أرضعت!
في يونيو من العام 2002م أجرى الصحافي (الجمبازي) أحمد البلال الطيب لقاءً تلفزيونياً (برنامج في الواجهة) مع المشير بمناسبة مرور 13 سنة على الانقلاب العسكري. حكى فيه تفاصيل الدقائق الأخيرة التي سبقت ساعة الصفر. قال إنه أراد التحرك من منزله في (حي كوبر) نحو القيادة العامة، فجأة ظهرت سيارة في الشارع العام، فاعتقد أن أمره قد انكشف. وتكررت الدهشة بمثلما عقدت لساني من قبل حينما ختم المذكور روايته تعليقاً على الخوف أو القلق – سيان – الذي اعتراه ساعتئذٍ، وقال (لأنو طبعاً زي ما بقول المثل السوداني، الحرامي في رأسه ريشة) ودونما اكتراث لحجارة السجيل التي ألقاها على رؤوس العباد، أعيد بث هذا اللقاء بعد ثلاث سنوات (يونيو2005) بمناسبة ذات الذكرى التعيسة. ولمزيد من التفاصيل يمكن للقارىء أن ينظر ص62 في كتابنا المعنون بـ (سقوط الأقنعة/ سنوات الأمل والخيبة)!
تعلمون أن تلك من الكبائر التي لو جرت على لسان رئيس في حكومة محترمة لزلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها. لن نذهب بعيداً، فالدولة التي تقف على رأس فسطاط الكفر كما يقولون، حاكمت رئيسها على رؤوس الأشهاد وبشفافية لا تعرفها (الشريعة المدغمسة) التي يتباهى بها (السارق الأمين) فالولايات المتحدة الأمريكية لم تحاكم رئيسها بيل كلنتون حينما شاع خبر علاقته مع مونيكا لوينسكي، المتدربة اليافعة في البيت الأبيض. لم تحاكمه بتهمة (الشروع في الزنا) وإنما بالكذب تحت القسم كما تقول الثقافة العدلية الأمريكية. وهب يا قارئي الكريم أنهم حاكموه بالأولى، فما الذي ستقوله العصبة الحاكمة في تهمة كالوا من حرامها ما أبغض الناس في حلالها. إذ لم يكتفوا بالمثنى والثلاث والرباع، بل جاد بعض ممن له فضل ظهر على من لا ظهر له، فليس غريباً بعدئذ أن يسمع القوم بمسميات للنكاح لم تجر على لسان سلف ولا خطرت على قلب خلف!
اللقاء التلفزيوني المذكور جاء فيه ما هو أنكى وأمر. حكى فيه المشير كذبة بلقاء أخرى مصحوبة بتلك الضحكة العجفاء التي تعرفون، قال إن ذهنه تفتق عن حيلة. إذ اتفق مع طبيب الوحدة العسكرية (لعلها المجلد/ غرب السودان) أن يكتب له تقريراً طبياً يزعم فيه أنه مصاب بــ (مغص كلوي) حتى يتسنى له الغياب عن العمل. تأبط تقريره هذا ويمم وجهه شطر العاصمة الخرطوم لمعانقة مجد بائس. وهناك تمدد الكذب بحسب وقائعه. إذ ذهب للقيادة العامة صبيحة خميس الانقلاب، وتعمد أن يقول لكل من يستفسره عن سبب حضوره إنه جاء لمتابعة إجراءات سفره للمشاركة في كورس بجمهورية مصر العربية. قد يقول أصحاب مذهب (فقه الضرورة) إن ذلك من باب التمويه. ولكن هبْ أن ذلك كذلك. فكيف لرأس دولة أن يبث كذبه بالصوت والصورة ويتباهى به بعدئذٍ؟ إن مثل هذه الروايات لو جرت على لسان رئيس يحترم نفسه في دول (البغي والعدوان) لإلتصق أسمه بجريرة لا تُبلى وسقط من شاهق!
غلب الطبع التطبع كما يقولون، فبعد نجاح الانقلاب لم نكن بعدئذ في حاجة لمزيد من القصص. تصدر (عمر الكضاب) قائمة الناكرين، فلم يكتف بنفي ما ظلت تنفيه عصبته حول علاقة الانقلاب بالجبهة الإسلاموية، ولكنه زايد بمكابرة فجة حتى صدّق كذبته. منها ما حدث أثناء ما عرف بالمفاصلة مع جناح الترابي، ففي مزايدة على الأخير وهو عراب الانقلاب نفسه، ادّعى المشير أنه ليس عضواً في التنظيم وحسب وإنما والده العارف بالله (حسن أحمد البشير) تتلمذ على يد حسن البنا وبايعه وضع اليد باليد. ثم مضى بعد أن جاءته الرئاسة تجرجر خيبتها يتحرى الكذب ويتبعه كظله كلما صعد منبراً وهش بعصاه على الكاظمين الغيظ والصبر. بل لم يجد ثمة مناص من أن يكذب بقسم (غموس) عندما خطب في جمع يوم 29/6/2006 بميدان الساحة الخضراء، وقال إنه لن يسمح بدخول أية قوات أجنبية طالما هو في سدة السلطة. وأعطى وعداً لسامعيه بتأكيد (أنه يفضل أن يقال عنه مجاهد وقائد للمقاومة، وليس رئيس دولة محتلة) ومن قبل أن يتبخر حديثه في الهواء، لم يفاجأ الذين يتابعون كذبه بوجود أكثر من أربعين ألف جندي أجنبي يسرحون ويمرحون في عرصات السودان، لم يكتفوا بوضع أحذيتهم الثقيلة على صدور شعبه، بل مدوا لسانهم ساخرين من المتوعد الهمام!
واقع الأمر أنني لم أعجب بمزايداته على عراب الانقلاب الترابي، بقدر ما زاد عجبي في أن (أسد البرامكة) الذي قبل لنفسه أن يكون ديكوراً لعقد كامل من الزمن تحت إبطه، لم يجرؤ خلاله على أن يرفع صوته أو عينه على شيخه كما كان يناديه في الصوالين المغلقة، بينما ظل يرقص طرباً في الهواء الطلق كلما ترنم فنان أسمه (قيقم) بـأغنية (النار ولَّعَا وأتوطّا فوق جمُرَا) ولمزيد من الدهشة كنت قد ذكرت في كتابنا (الخندق/ أسرار دولة الفساد والاستبداد) أن من دأب على الرقص كلما ضربت له الدفوف، ضُربت عليه الذلة والمسكنة أيضاً، فلم يلتق الترابي وجهاً لوجه أي لوحدهما في العشرية الأولى كلها سوى مرة واحدة، كان ذلك بعد حدوث محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أديس أبابا في يونيو 1995 فقد كانت كل المقابلات السابقة في معية آخرين بما فيها الأولى التي كانت قبيل الانقلاب بيوم أو يومين تقريباً. وبعد هذا لابد أن البعض ممن أقلقهم تنطع الرئيس الضرورة بنقائه العرقي، تساءلوا بمثلما تساءلنا عن رئيس يرقص على أشلاء خيبته وهو يعلم أنه ليس برئيس!
يعلم البعض أيضاً ما ذكرناه في مقال سابق، كيف قتل الرئيس الضرورة فتاة يافعة عام1987م أي قبل الانقلاب. حدث ذلك أثناء حفل زواج في بلدة (بفرة) التي تقع بين المجلد ولقاوة والضحية إحدى فتيات قبيلة المسيرية. جاءت لتنعم ببعض الفرح والسرور وتُمنِّى نفسها بفتى الأحلام القادم، فإذا بحلمها يصبح في لون الدم وطعم الموت، حيث جاءتها رصاصة طائشة من الرئيس الذي كان يرقص ببندقية كلاشنكوف، راح يتباهى بها فانطلقت منها رصاصة استقرت في صدر الفتاة. ضحيتئذٍ وبطريقة أهل السودان المعروفة في الحلول (الجودية) قال لنا قارىء كريم أن زميل المذكور في القوات المسلحة ويمت بصلة قربى للضحية، وهو المقدم بندر البلولة حيدر تدخل للحئول دون أن تتصاعد القضية وتصل للقضاء. وقيل إن (الأجاويد) حلوا الأمر بفرض مبلغ من المال على سبيل (الدية) وقد قبل بها أهل الفتاة، ربما كرماً منهم أو لأن للفقر الذي طال معظم أهل السودان أحكامه. واقع الأمر، القصة نفسها ذكرها صديقنا العميد (م) السر أحمد سعيد في كتابه (السيف والطغاة) ص 251 بذات التفاصيل والتي ختمها بقوله (إن مثل ذلك التصرف الأخرق أقل ما يمكن أن يعاقب به صاحبه هو الإبعاد من الخدمة. لكن من سخريات الزمن ومن بدع العالم الثالث أن يظل ذلك العميد "الأشتر" في الخدمة في صفوف القوات المسلحة، بل ويصبح قائداً عاماً وقائداً أعلى لها) وقد يقول قائل إن الرجل لم يقصد، وأفرض نحن وافقناه. ولكن ماذا يقول في جنديٍ لم يحسن أبسط أنواع صنعته، وهي تصويب السلاح نحو هدفه؟!
حتى أكون منصفاً كما ذكرت، لا يعني ذلك أن الرئيس الضرورة لم ينطق صدقاً، فقد فعلها مرة واحدة بحسب رصدي. ذلك عندما خاطب ختام مداولات المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي حول الخطة الخمسية يوم 12/6/2007 وقال: (يا جماعة نحن جينا لهذا الموقغ عساكر وتعلمنا بعض الشيء من خلال وجودنا في مجلس الوزراء، وما يدور في لجان التنمية) فحزنت لحال شعب يتيم تعلم الجهلاء الحلاقة في رأسه!
وإلى الحلقة القادمة التي نميط فيها اللثام عن المخبوء تحت اللسان وخلف الجدران!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية ولو طال السفر!!

ماكفرلين و -شحم ألبل- وبينهما طازج!


حفلت بعض وسائل الإعلام الأمريكية ومنها (صحيفة الواشنطن بوست وقناة السي أن أن ووكالة الأسوشيتد برس) الأسبوع الماضي بخبر تعده من العيار الثقيل، بدليل تدويره في بعض وسائل الإعلام العالمية. كان ذلك عن مداهمة ضباط من مكتب التحقيقات الفيدرالية (الأف بي آي) لمسكن السيد روبرت ماكفرلين الكائن في بناية "ووترغيت" الشهيرة في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي. وذلك للبحث عن أدلة مادية تثبت ما توصلوا له قبلاً عن احتمال تورطه في (عمل مشبوه) بحسب وصفهم، إنه ذي صلة بنظام العصبة الحاكم في الخرطوم. وبالفعل أسفر البحث عن حصولهم على ما عضد اتهامهم، ومن بين الأدلة كان هناك عقد موقع بين ماكفرلين والسلطات القطرية الراعية للمفاوضات الدارفورية بمبلغ 1.3 (مليون وثلاثمائة ألف دولار) وقعته الأخيرة نيابة عن الحكومة السودانية من باب التمويه، في حين قيل إن الصفقة في حد ذاتها تنم عما اشتهرت به العصبة من (غسل أموال) الباطل، إلى جانب أن ماكفرلين جاء بشيء أداً في القانون الأمريكي وهو الاتصال بحكومة متهمة برعاية الإرهاب، وتلك جريرة كما تعلمون ظلت تتمتع بها العصبة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي ولم تستطع الفكاك من براثنها رغم أنها قدمت (للسادة الأمريكان) من آيات الولاء والطاعة في الخفاء، ما عجز الجن عن تقديمه لسيدنا سليمان!
تناقلت كثير من وسائل الإعلام العالمية الخبر وعلى إثر سريانه في الأسافير والمواقع الالكترونية اتصل بي العديد من الأصدقاء والزملاء والقراء، بعضهم عبّر عن سعادته بحسب أن مكتب التحقيقات الأمريكية منح كتابي الأخير (الخندق/أسرار دولة الفساد والاستبداد في السودان) مصداقية للوثائق التي ضمها بين دفتيه كدليل على الفساد والاستبداد في دولة العصبة، ومن بينها وثائق القصة المشار إليها بحذفارها. وبرغم سعادتي بالسبق الإعلامي الذي تقاصرت عنه في حينها أو تباطأت دونه الأجهزة الأمنية الأمريكية بكل ما أوتيت من إمكانات ضخمة لا تخفى على الناظرين، إلا أنني لم أذهب في ذات الاتجاه الذي ذهبوا إليه في التقريظ، ذلك لأنني لم أضع مصداقيتي أصلاً في كف عفريت حتى تأتي (الأف بي آي) لتمنحني صكاً في البراءة. ذلك ما لم أنتظره منها أو من أية جهة أخرى غير الذين ظللت أوجه لهم رسالتي وتعاقدت معهم بشرط واحد غير مكتوب.. أن يتفاعلوا مع ما يقرأون وأن أنفعل بما يشعرون!
واقع الأمر لم يكن ما حدث مصدر مفاجأة لي، بدليل ما جاء في خاتمة الفصل الخاص بهذه القضية في الكتاب (ص 268) والذي صدر في يناير 2012م أي قبل أكثر من عام (مضى روبرت كابيللي في طريق العدالة الأمريكيَّة التي لا يُظلم عندها أحد من رعاياها، ولا تنحاز لأحد بسبب وضعه الوظيفي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، فالكل سواسية أمام القانون وبحسب الدستور الذي وضعه ”الآباء المؤسسون“Founding Fathers كما يُسمَّون في الثقافة الأمريكيَّة. يبقى القول إن كانت قضية ماكفرلين قد خلقت ضجَّة حينما أطلت، ولم تمض لنهايتها المنطقيَّة لأنها غابت فيها الدلائل والبراهين، وهو ما نجحنا في توفيره بتواضع، وقد أصبح مبذولاً للقرَّاء الكرام ومن يرغب من أهل الشأن. تبعاً لهذا، يمكن القول بإمكانية وضع الموضوع في دائرة الضوء مجدداً، بإعادة فتح ملفاته المفخخة في الدوائر العدليَّة الأمريكيَّة. وهو أمر إن حدث أو لم يحدث فلا نظن أنه سيعنينا كثيرأ أو قليلاً. اللهُمَّ إلاَّ إن رَشَحَت تداعياته على القضيَّة السُّودانية. فما بالك يا عزيزي القارئ لو أن هذا التداعي نتجت عنه تسوية شكليَّة لقضيَّة حيويَّة كقضيَّة دارفور؟! حيث تصعُبُ المقارنة من الناحية الأخلاقيَّة. ففي هذه القضيَّة دفع كثير من الأبرياء ضريبة قاسية، وصلت حد إزهاق الأرواح، علاوةً عن النزوح الذي لم يتوقف يوماً، فضلاً عن حياة الذُلِّ والمهانة في المعسكرات، وما خفي كان أسوأ. من هذا المنطلق، ما الذي يمكن أن يتوقعه المرء لو أنَّ المعنيين عَمَدوا إلى فتح ملفات هذه القضيَّة مجدَّداً، وفي ظهرها كل هذه الحمولة الإنسانيَّة؟!) انتهى الاقتباس ولعل القارىء يلتمس فيه إيماننا بحتمية وصول القضية لنهايتها المنطقية طال الزمن أو قصر!
يجدر بنا القول إنه ليس ثابتاً لدينا ما إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالية قد اعتمد في مسألة تورط ماكفرلين وحيثياتها - ومنها العقد المبرم بينه والسلطات القطرية - على المنشور في الكتاب، أو أنه أي مكتب التحقيقات الفيدرالية وصلته ذات المعلومات من المصدر الذي سربها لنا (وهو بالمناسبة من جهابذة العصبة ذوي البأس نفسها كما سبق ووضحنا في الكتاب) أو أن المكتب توصل لها بطريق آخر غير الذي سلكناه. لكن الذي نعلمه أن الكتاب ومادته أصبح أحد أدلة المحكمة الجنائية في لاهاى. وسواءٌ بهذا أو ذاك فإن القضية اتخذت الآن مجرى آخر، والذين يتابعون مثل هذه القضايا يعلمون أن الحجر الذي ألقى في بركتها الآسنة، سوف تتسع دوائره وستنداح ولربما ابتلعت في جوفها أناس كثيرين المرئيين وما هم خلف حجاب!
لابد أن القراء الذين لم يتابعوا الموضوع من قبل، يتساءلون الآن عمن من هو ماكفرلين؟ ونجيب بحسب ما جاء في الكتاب ص253 هو (أحد المستشارين البارزين للأمن القومي الأمريكي، حيث شغل هذا المنصب في العام 1983-1985 وله بصمات واضحة في السياسة الخارجية الأمريكيَّة في إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، لكن اسمه ارتبط بقضيَّة كبرى ظللتها فضيحة ملأت ريحها الآفاق، تلك هي فضيحة ”إيران كونترا“، وقد أدين في عام 1988 بتُهم تتعلق بحجب معلومات عن الكونجرس، كذلك أدين بتورط القوات الأمريكية (المارينز) في دخولها لبنان عبر شواطئه وما ترتب عن ذلك في تفجير السفارة الأمريكية في بيروت والذي راح ضحيته 63 أمريكياً وتفجير مقر المارينيز في بيروت أيضاً وراح ضحيته 241 أمريكياً. لكنه حصل لاحقاً على عفو من الرئيس جورج بوش، ثم عمل مستشاراً في العام 2008 للمرشَّح الرئاسي الجمهوري جون ماكين عن ولاية أريزونا. ولاحقاً أسَّس مجموعة استشارية باسمه).
بهذه الخلفية والإرث الضخم في الخطايا، يأتي السؤال التالي حول كيفية وصول ماكفرلين لقلب العصبة السودانية الحاكمة في الخرطوم؟ جاء ذلك عبر أحد جلاوزة جهاز أمن واستخبارات صلاح قوش وهو المدعو محمد حسان بابكر شحم ألبل، وهو المشار إليه في عنوان المقال. فوفقاً للمعلومات المنشورة في الكتاب ص 151 (نحن لا نعرفه، كما أنه ليس بذات الشُهرة التي يمكن القول أن الكثيرين يعرفونه. لأنه ببساطة يعمل في الكواليس كرجل أمن، وبالتالي لا يُعتقد أن من يعرفونه يتعدون دائرة أهله وأصدقائه وزُملائه في العمل، أو من عرفه هنا وهناك. لكن هذا لا يُنقِصُ من أهميته في القضيَّة التي نحن بصددها. فهو على العكس تماماً، يعتبر شخصاً مهماً بين عُصبته الأمنيَّة كما أشرنا. سردنا سيرته الذاتية من واقع ما خطه شخصياً بيده، وإن كانت لا تخلو من مبالغة رغم أن تلك شيمة من شيم أهل الأمن عموماً. ربما أوردها بتلك الصورة لكي يُقنع رئيسه بحُسن سيرته ونقاء سريرته، والقاعدة تقول إن رجال الأمن الخدَّامون في الأنظمة الشموليَّة، كذبة إلاَّ من رحم ربي. ذلك بالطبع وفقاً للمنطق الذي يتسق مع طبيعة النظام، حيث يُصبحُ الكذب مثل الملح في الطعام، لا تستقيم معه سيرة أو يتوافق معه حدث إلا إذا كان مُبهَّراً ببُهار الكذب، ومطلياً بغلاف الرِّياء، ومتدثراً بلحاف النفاق)!
خلاصة أن شحم ألبل هو عراب القضية التي نحن بصددها، ثم مضى الكتاب في تفصيل سيرته الذاتية ولا نريد أن نشغل بها القارىء، ولكن تكفي الإشارة فقط لما سألني عنه الكثيرون وهو (شحم ألبل) ما إذا كان اسماً أو لقباً، والواقع أنني لا أعرف ما إذا كانت هذه أو تلك ولكن كلمة ”الِبِلْ“ هي دارجة سودانية ومعناه الفصيح الإبل، أي أن التعبير يعني شحم الإبل، ووفقاً لما علمنا هو لقب الشيخ محمود ود زايد زعيم قبيلة الضباينة، الذي عُرف بشجاعته وكرمه فيما عرف بـ (قدح ود زايد) وكذا مناهضته المهدية، والخليفة عبدالله التعايشي تحديداً. وتعيش القبيلة في أرض البطانة، وغير معروف لدينا إن كان للمقدم حسَّان صِلة بكل هذا، أم أنه تشابُه في الألقاب، وهو على كلٍ ليس بذي بالٍ في سياق ما نحن بصدده، فصاحب اللقب الأصلي كريم في ما يفتخر به الناس، أما الموصوف به فكريم فيما ينفر منه الناس!
لرجال الأمن دهاليز مظلمة، لهذا فبين الشاطر ماكفرلين والمشطور شحم ألبل ينطرح السؤال التالي عمن هو الطازج الذي بينهما؟ فالطازج قد يكون القضية التي ذكرناها، ولكن اسمحوا لي أن أضيف لها نكهةً يستطعمها القراء. ففي بحثها الدؤوب عن الانفلات من المقصلة الأمريكية (على عكس ما دنا عذابها كما يقولون) وفي سبيل إيمانهم بأن 99% من أوراق الحلول بيد (السادة الأمريكان كما أنشدوا) توصلت العصبة التي يمثلها شحم ألبل للخيط الذي يدلها على ماكفرلين. كان ذلك وسيط اسمه البينو أبوج وهو أمريكي من أصول سودانية يومذاك، وجنوب سودانية بعد الانفصال الآن. ولألبينو هذا تفاصيل وردت في الكتاب نعجز عن اختصارها. المهم في الأمر أن ماكفرلين نفسه شرع في الاتصال بشخصيات أمريكية متنفذة للعمل معه كقوى ضاغطة (لوبي) لتحسين صورة النظام السوداني القذرة، منهم من كان يتولى مهاماً جساماً كإسكوت غرايشين المبعوث الرئاسي السابق وجيمس جونز مستشار الأمن القومي السابق، كما حاول استمالة آخرين منهم جون دانفورث وروبرت أوكيلي المبعوث الرئاسي الأسبق في الصومال وآخرين، وبالطبع كان المال هو أداة التسهيل التي تذيب صلد الحديد. وفي هذا الشأن هناك كثير من التفاصيل يمكن استقاؤها من الكتاب حتى لا نكرر تدوير معلوماته!
ليس من باب الترويج للكتاب الذي نعد بالفعل طبعته الرابعة رغم أنف العصبة التي حظرت دخوله السودان. إذ إنه يحتوي على ما هو أنكى مع شخصيات أمريكية نافذة، مثل قصة القس جون دانفورث وصفقة السكر الذي أصبح علقماً في حلوقنا، فدانفورث هو الذي عمّد الواقع الذين نحن فيه منفصلون الآن. واقع الأمر سواء هذه أو تلك فالقضايا متجه نحو مزيد من التعرية وتسليط الأضواء ولو بعد حين. ولهذا ليس بعيداً أن تصبح إحدى قضايا الرأي العام بشيء من الإثارة المعروفة في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية، نظراً للموقع الذي كان يحتله رويرت ماكفرلين والخطوط الحمراء التي عبرها، والتي تعتبر الدوائر الرسمية أن فيها مساساً بالأمن القومي الأمريكي. ومن عجبٍ كان ماكفرلين أحد حراسه بالأمس وأصبح أحد مهدديه اليوم!
لعل الذين قرأوا الكتاب يعلمون أن أكثر من نصف فضائحه ووثائقه الدامغة هي عبارة عن قضايا جنائية متصلة بالمحيط الإقليمي والدولي، والقليل منها وبخاصة قضايا الفساد متصل بموضوعات محلية سودانية، وإن كانت الأخيرة قد دأب البعض على تناولها بطريقة (عفا الله عما سلف) وفق ما هو معروف في المنهج السلبي السوداني، فإن الأولى ذات الأبعاد الخارجية ليست فيها دية أو كفارة. وبالأخص تلك القضايا المتصلة بالشئون الأمريكية، وما على القارىء المهتم سوى أن يصغي السمع لما هو قادم فقد تأتيه الأخبار بمن لم نزود!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!

إِنِّي كَفَرتُ بِصنَمِكُم الذي تَعبُدُون!

يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
عندما استلمتم السُلطة يف السودان بانقلاب عسكري صبيحة الثلاثين من يونيو1989م كنا نعيش في ظل وطن ممدود ونظام ديمقراطي برلماني معدود. أياً كان ضعفه وقواه، ومهما بلغ من فجوره وتقواه، فقد ذهبنا إلى صناديق الاقتراع واخترناه طواعية بملء إرادتنا. ليس لأننا نؤمن بأنه الحكم الأمثل لبلادنا فحسب، ولكن لأن واقع بلادنا نفسه يشهد بذلك. فنحن شعب كثرت إثنياته حتى كاد أن يعجز الأنثروبولوجيون عن عدِّهم وحصرِّهم. ونحن قوم تعددت دياناتهم لدرجة احتار الثيوقراطيون في تعايشها كما الحمل الوديع قرب ذئب لئيم. ونحن أناس تباينت ثقافاتهم فصار الديمغرافيون يحسدوننا على ثرائها أكثر من شعوب تمنتها ونصبت لها شركاً فعزّ تصيُدها. من أجل هذا كانت الديمقراطية غايتنا والحرية وسيلتنا، ذاك هو النظام المثالي الذي آمنا به وقلنا إنه من سيحفظ لنا حقوق هؤلاء وإن كبُرت ويُبيِّن واجباتهم وإن صغُرت. وقلنا إنه النظام الذي سينقلنا من ظلام التطرف إلى نور الحضارة والانفتاح، وقلنا إنه النظام الذي سينهض بوطننا نحو آفاق التميز والتقدم والازدهار. وأخيراً قلنا إنه النظام الذي سيكفل لنا مقعد صدق بين القبائل والشعوب والأمم!
(2)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
لم نكن يومذاك نشتجِر في يوم سقيفة بني ساعدة طلباً لخلافة بغير وسائلها وطرقها وآلياتها. فليس بيننا من هو في مقام علي بن أبي طالب فيزهدها، وليس فينا من هو في قامة أبي بكر الصديق لتأتيه تجرجر أذيالها. لم نكن عصرئذٍ تخيم فوق رؤوسنا موقعة جمل ولا حرب نهروان ولا مذبحة كربلاء ولا معركة صفين، حتى ينادي فينا منادٍ يدعوننا لرفع المصاحف على أسنة الرماح. لم يكن عهدئذٍ ثمة فتنة كبرى ولا صغرى ولا يحزنون، لم يكن وقتئذٍ قد تمايزت صفوفنا بين أمويين وعباسيين، أو انقسمنا إلى سنة وشيعة، أو تقوقعنا بين مهاجرين وأنصار. على هدى المواطنة الحقة تواصينا، وكان المواطنون كأسنان المشط لا فرق بين أحدهم وآخر إلا بقدر ما اتّخذ الحرية ديناً والديمقراطية دنيا. كنا نعبُد الله على حرفٍ، ونتدافع بالمناكب نحو رحاب وطن عظيم، يرحم فيه كبيرنا صغيرنا ويوقر فيه صغيرنا كبيرنا. لم نكن في حاجة لأذقان تشهد سلامة إسلامنا، ولا لغُرة فوق جباهنا تؤكد سمو إيماننا. كنا نُزكي في صمتٍ ونصوم بخشوع ونُصلي في قنوتٍ وندعو ربنا بلا قنوط! فيا أيها الناس إن كان دينهم يدعو للفتنة، ويُفرق بين المرء وأخيه في دولة المواطنة، ويأمر بالمنكر وينهي عن المعروف، فاشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(3)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
كنا إذا وقفنا اعتدلت قامتنا كبرياء، وإذا جلسنا تواضعت أجسادنا بلا خيلاء. هبطتم علينا كالجراد ففغرنا أفواهنا دهشة وطأطأنا رؤوسنا خجلاً. كانت الديمقراطية أكبر همنا ومبلغ علمنا، تمنيناها مبرأة من العيوب ولم نقل إنها قرآن مُنزَّل أو إنجيل جديد. ارتضيناها لأنها غدت سُنة ماضية في حيوات البشر، يعزّ الشعب بهاَ من يشاء ويذلُّ من يشاء. هي ذات الديمقراطية التي أخرجت شعوباً من ظلمات العصور الوسطى إلى رحاب الحضارة والتقدم والازدهار. لكننا كنا في غفلة من أمرنا، أو كُنا من البراءة بمكان بحيث ظننا أن مسيلمة قُبر مع الأولين متوسداً كذبه. بل كنا من السذاجة حين اعتقدنا أن عبد الله بن أبي سلول لن يعود شاهراً نفاقه ودجله فوق محنتنا. وكنا من اللامبالاة بدرجة لم نتخيل فيها أن أكثر من بروتس كان يعيش بين ظهرانينا، وقد خبأوا خناجرهم خلف ظهورهم ليوم كريهة وطعان جِلس. كنا كالحمقى الذين يبحثون عن ظلٍ في ليلة السكاكين الطويلة، ولم يكن ثمة ظل يومئذٍ سوى ظل الحقيقة. فيا أيها الناس إن كان دينهم يشيع التخلف ويحض على المؤامرة، ويحرض على الكذب، وينشر النفاق بين بني البشر، اشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(4)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
بعد أن نجحتم في الانقلاب المشؤوم الذي دبرتوموه بِاسمِ الدين بحيلٍ يعجز الحواة عن فعلها، شرعتم بِاسم الله في تدنيس أرض كانت عذراء كقلوب ساكنيها، وبِاسم الله ولغتم في الفجور حتى زلزلت الأرض زلزالها، وبِاسم الله سعيتم في فضاءات الوطن فملأتموها ظلماً وجوراً وحروب حتى تصدّعت أركانه واشتعلت نيرانه. قتلتم شباباً يفعاً بتهمة أصبحت بعدئذٍ دينكم ودنياكم وآخرتكم. أزهقتم أرواح طلاب أبرياء كانوا يرومون علماً يستبينوا به سبل الحياة وينشدون أخلاقاً تعينهم على نوائب الدهر. أهدرتم دماء من خالفكم الرأي والرُؤى، وقطعتم أرزاق عباد الله الكاظمين الصبر والغيظ، كان ذاك يوم أن تلثم الصحابي مجذوب الخليفة وجعل المنبر مقصلة كما الحجاج بن يوسف، وقال إني أرى رؤوساً قد أينعت في الخدمة المدنية والنظامية، فهب لمؤازرته في الحملة الانتقامية تابعه الطيب محمد خير (سيخة) فراحت بعدئذٍ جحافل المفصولين تجوب الأرض بحثاً عمَّا يسد الرمق ويحفظ الكرامة. ولأنه لا فضيلة مع الجوع، فقد أكلت القوارير بأثداهن، واستطعم اللاجئون خشاش الأرض في معسكرات الذُل والهوان. فيا أيها الناس لو كان هذا دينهم الذي يقطع الأرزاق، ويقتل النفس التي حرم الله، ويعلن الحرب على أناس شهدوا بربوبية الخالق تبارك وتعالى، فاشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(5)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدّعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
يا أيها الكهنوتيون الجدد، بِاسمِ الله والجهاد خضتم حرباً في جنوب البلاد ظللنا نردد منذ اندلاعها وحتى مقدمكم البئيس، أنها حرب ذات مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة المعالم، ظلَّ المخلصون يثابرون في اجترار الحلول تلو الحلول، منها ما كان قاب قوسين أو أدنى، كما الحال في الاتفاقية التي درأت الحدود (قوانين سبتمبر) بالشبهات، فدبرتم من أجلها الانقلاب وأعلنتم الحرب الدينية على مواطنيكم وقسمتموهم بين فسطاطين، جنوب كافر وشمال مسلم. طار التوصيف في الآفاق واستقر الوصف في النفوس، فبهت من بهت وفزع من فزع وكفر من كفر. ثمَّ مضى حين من الدهر تطايرت النعوش كما يتطاير الفراش حول النار. ألقمتم الثكالى حجراً فتجمد الدمع في المآقي، وشيعتم الوهم بين الناس بأساطير وأباطيل فتخثر الحزن في القلوب. ثمَّ انقلبتم على أعقابكم خاسرين بعد أن هش كفار من وراء الحدود عصاهم، فاضطربت أحوالكم وتقطعت أوصالكم وأذعنتم وقلتم سوف نجنح للسلم، فكان الثمن وطناً بأكمله قرباناً في مذابح الفداء، ليس للدين الذي تتظاهرون بمناسكه ولكن من أجل السلطة التي تتشبثون بطقوسها. فيا أيها الناس لو كان هذا دينهم الذي يقيد الحريات ويكمم الأفواه، ويحرف كلم الله، ويخدع عباد الله، ويفتري على خلق الله، فاشهدوا أني بريء من دينهم ومما يعبدون!
(6)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
بِاسمِ الله ودينه الذي يحض على طعام المسكين، كنزتم الذهب والفضة والبترول، عبدتم الدولار والدينار والريال والدرهم. بنيتم للفساد بيوتاً تطاولت طبقاً فوق طبق. وركبتم دواباً تباينت أحداً مع أحد. بينكم صال السارقون فغضتم الطرف عن اختلاساتهم، وجال المرتشون فأصابكم وقر من أثر الخنوع. أقمتم الحدود على الضعفاء الذين لا يقوون على العيش بما يكدحون، وتركتم الأقوياء الذين يأكلون أموال الوطن بالباطل وما يدخرون. بِاسمِ الله والإسلام صرنا بفضلكم إرهابيون ونحن الذين كنا حينما نذبح خراف الأضحية تقطر عيوننا دماً ودمعاً. أصبحنا بأفعالكم مشردين ونحن الذين كانت تتقطر قلوبهم لوعة على فراق وطنهم ولو لبضعة أيام مما تعدون، أضحينا بجرائركم مجرمون ونصابون ومشبوهون ونحن الذين كنا نعتز بسمو أخلاقنا وجمال قيمنا وأصالة معدننا. فيا أيها الناس لو كان هذا دينهم الذي يشجع على الباطل ويحيد عن الحق، يزين الفساد ويحث على أكل أموال السحت، لو كان دينهم هذا الذي يرهب ولا يطعم من جوع، يرعب ولا يؤمن من خوف، فاشهدوا أني برىء من دينهم ومما يعبدون!
(7)
يا من تفترون على الخلق كذباً، تدعون ظلاً لله في أرضه، وتُفوضُون أنفسكم حُكاماً بِاسمِه على عباده..
إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. هؤلاء يا الله صنعوا أصناماً من المال والسلطة والجاه والفساد والاستبداد والذل والهوان وسوء الأخلاق وعبدوها!
هؤلاء تاجروا بديننا ومأكلنا ومشربنا وصحتنا وتعليمنا وثرواتنا وعاداتنا وتقاليدنا وتراثنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وحياتنا وأحلامنا وآمالنا وطموحاتنا وأمننا وسلامنا وأرزاقنا وثقافتنا واجتماعياتنا، وفوق كل ذلك هؤلاء تاجروا بك يا رب العالمين.. تباركت وتعاليت وتنزهت عما يزعمون!
يا أيها الناس، اشهدوا أني بريء من أصنامهم التي يعبدون، ومن دينهم الذي يزعمون، وآمنت بربي الذي لا يعرفون!!

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية ولو طال السفر!!